يشكل العراق نقطة اهتمام المراقبين نظرا لكثرة الاستحقاق التي تشهدها هذه الساحة أولها الانسحاب الأميركي من البلاد، والانتخابات النيابية التي باتت تلقي بظلالها على مجريات الأحداث السياسية والأمنية.
يكتنف الوجود العسكري الأمريكي في العراق الكثير من التناقضات ويحول السؤال بشأن انسحاب القوات الأمريكية من العراق إلى ما يشبه اللغز حيث أن الغموض المحيط بتلك النقطة ازداد كثافةً خلال الساعات الأربع والعشرين الماضية، في ظل تصريح جو بايدن بـ"إنهاء المهمة القتالية" بحلول نهاية عام 2021 ونفي قائد القيادة المركزية الأمريكية، الجنرال كينيث ماكنزي في 30 نيسان 2021 خروج القوات الأمريكية من العراق وتوقف العمليات القتالية فيه. وهذه ليست أول مرّة تتضارب وتتناقض التصريحات الأمريكية بخصوص انسحاب القوات الأمريكية من العراق، ففي نيسان 2021 صدر بيان مشترك عن وزيرَيْ خارجية البلدين، يفيد باستمرار عملية سحب واشنطن جنودها المقاتلين من بغداد، و في الوقت نفسه نفى المتحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكية وجود "أي تفاهم" في هذا الشأن.
فماذا وراء التضارب في تصريحات سحب القوات الأميركية من العراق؟
كانت قضية القوات الأمريكية في العراق قد أصبحت على صفيح ساخن منذ مطلع العام الماضي، بعد أن اتخذ البرلمان العراقي قراراً يوم 5 كانون الثاني 2020، بخروج جميع القوات الأجنبية -بما فيها الأمريكية- من البلاد، كردّ فعل على اغتيال واشنطن للشهيد الجنرال قاسم سليماني، رئيس فيلق القدس في حرس الثورة الإيرانية، ونائب رئيس الحشد الشعبي العراقي مهدي المهندس، في ضربة صاروخية استهدفتهم لدى خروج موكبهم من مطار بغداد الدولي، فجر الثالث من كانون الثاني 2020.
ومنذ ذلك الوقت، تناقضت التصريحات بين التأكيد على الانسحاب ونفي الانسحاب وأبرز تلك التصريحات جاءت كالتالي:
تصريح المتحدثة باسم الخارجية الأميركية مورغان أورتيغوس 10 كانون الثاني 2019
|
رسالة من العميد وليام سيلي إلى قيادة العمليات المشتركة كانون الثاني 2020 - قوات التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة ستقوم بإعادة تمركز خلال الأيام والأسابيع المقبلة. |
تصريح رئيس الأركان الأمريكي الجنرال مارك ميلي كانون الثاني 2020
|
تصريح وزير الدفاع الأمريكي مارك إسبر كانون الثاني 2020
|
تصريح وزير الدفاع مارك اسبر 7 كانون الثاني 2020
|
تصريح دونالد ترامب 11 كانون الثاني 2020
|
تصريح دونالد ترامب 20 آب 2020
|
تصريح قائد القيادة المركزية الأمريكية، الجنرال كينيث ماكنزي 10 أيلول 2020
|
تصريح وزير الدفاع الأمريكي بالوكالة "كريس ميلر" 17 تشرين الثاني 2020
|
بيان مشترك عن وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن ونظيره العراقي فؤاد حسين 7 نيسان 2021
|
تصريح المتحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكية جون كيربي 8 نيسان 2021
محادثات فنية بشأن الانسحاب، ولا يوجد تفاهم حالياً على موعد انسحاب بعض الجنود. |
تصريح مساعد وزير الخارجية الاميركية السابق دايفيد شنكر 12 نيسان 2021
|
تصريح قائد القيادة المركزية الأمريكية، الجنرال كينيث ماكنزي 30 نيسان 2021
|
تصريحات من البنتاغون وإدارة الرئيس جو بايدن 24 تموز 2021
|
تصريحات من البنتاغون 24 تموز 2021
|
تصريح جو بايدن 26 تموز 2021
|
كيف يُفسّر هذا التضارب؟
في البداية يجب الاشارة الى الهدف الأساسي من تواجد القوات الأمريكية في العراق الذي ليس له علاقة بحجة "مكافحة الإرهاب" لأن كما ذكرنا في ملفات أخرى القوات المتواجدة في العراق هي التي كانت تنقل المساعدات اللوجستية المرسلة من الولايات المتحدة الأمريكية لداعش لتعزيز قوّته هناك، والتواجد الأمريكي في العراق يعتريه الكثير من التناقض والخداع، إذ خُلق "داعش" ونما وتمدد برعاية أميركية، وبشهادة أكثر من مسؤول أميركي سابق اعترف بذلك بعد إحالته إلى التقاعد. في الحقيقة القوات الأمريكية قاتلت ومازالت وحدات الجيش العراقي ووحدات الحشد الشعبي فقط. واليوم، يلمس الجميع لمس اليد كيف يتمدد "داعش" في العراق ويناور تبعاً لأجندة واشنطن، إذ تستغلّ حركته لمصلحة إبقاء مبرر لتغطية احتلالها العراق. وقد أشار أحد بنود المفاوضات الأخيرة في البيت الأبيض بوضوح إلى إبقاء ما يلزم لمحاربة "داعش".
هذا التضارب المقصود والمنسّق في التصريحات حول انسحاب القوات الأمريكية من العراق يهدف الى خداع البيئة المؤيدة والمعارضة لقضية الانسحاب، استناداً إلى تاريخ السياسة والاستراتيجية والمناورة الأميركية ومسارها، في العراق وأفغانستان ولبنان وفيتنام، وفي أية دولة أنزلوا على أرضها وحدات عسكرية، لا يمكن تصديق كل ما يقوله هؤلاء، فيستخدمون هذه الطريقة تارة للتأكيد وتارة للنفي من أجل تحقيق 4 أهداف رئيسية: عدم المقاومة/ الإحباط والتردد بقيام ردة فعل /الإطمئنان بضمان الوجود الأمريكي/استفزاز للقيام بعمليات عسكرية، فهذا التضارب بالتصريحات لا يمثل تخبط أمريكي بل تطبيق لتكتيك ممنهج يخدم الاستراتيجية الامريكية للحفاط على القوات الأمريكية في العراق، وتوضيحًا لهذا الأمر، نستعرض الرسم التالي الذي يوضح هذا التكتيك:
وعطفاً على قرار الأميركيين الأخير بتغيير مهمة وحداتهم في العراق، وبسحب الوحدات القتالية نرى أن هذا القرار يمثّل خداعًا دبلوماسيًا:
-الانسحاب في العراق هو بمثابة إعادة التوازن، وإزالة القوات المقاتلة واستبدالها بمدربين ومستشارين يمثّل خداع دبلوماسي. عندما نقول وحدات تدريبية - استشارية، فهذا يعني وحدات عسكرية تملك كل الخبرات القتالية، أي أنها وحدات قتالية في الأساس، وتكلف بمهمة تدريب وتقديم استشارات. وهنا، نعود بالذاكرة إلى نموذج مماثل من تلك الوحدات الأميركية، والتي بقيت تدرب وتقدم استشارات للجيش العراقي ووحدات الأجهزة الأمنية بعد انسحابها في العام 2011، استناداً إلى اتفاقية أمنية رعت حينها ذلك الانسحاب – تماماً كما يحدث اليوم في نتيجة مفاوضات بايدن – الكاظمي الأخيرة.
-يمكن القيام بأي عملية عسكرية ضدّ القوات العراقية أو الحشد الشعبي تحت عنوان مهمة استشارية.
وهذا يفسّر أن لا وجود لما يرّوج له إعلاميًّا بالانسحاب الأمريكي بالعراق، وهذا التلاعب في التصريحات ما هو الا خدمة إعلامية لتطبيق استراتيجية بقاء القوات الأمريكية في العراق.
ختامًا، ليست المرة الأولى التي تتمّ فيها مباحثات أو مفاوضات أميركية - عراقية في موضوع انسحاب القوات الأمريكية من العراق، فلطالما اعتاد الرأي العام العراقي والإقليمي والدولي تلك المفاوضات التي كان ينتج منها تغيير في عناوين مهمة تلك الوحدات أو التعريفات المتعلقة بماهيتها أو باختصاصها أو الوحدة العسكرية التابعة لها فحسب. أما عملياً، فكانت النتيجة دائماً "لا شيء". تبقى تلك الوحدات "وحدات احتلال"، وتبقى مسؤولة عن التوتر الأمني، وتبقى الراعية الأولى لحركة الإرهاب المنظّم والموجّه داخل العراق
الكاتب: غرفة التحرير