لا تبدو الولايات المتحدة اليوم خارجة من أزمة الإغلاق الحكومي الأطول في تاريخ الولايات المتحدة بقدر ما تبدو غارقة في تبعاته السياسية والاقتصادية. فالإغلاق الذي استمر 41 يوماً، لم يكن مجرّد "جمود" إداري، بل اختباراً فعلياً لمدى هشاشة التوازنات داخل النظام السياسي الأميركي. ومع أن التصويت الأخير في مجلس الشيوخ أتاح التقدم نحو اتفاق تمويلي مؤقت، فإن الانقسام الذي ضاعفه الإغلاق يبدو أعمق بكثير من أن يُختزل في تسوية إجرائية قصيرة الأجل.
هذا الإغلاق الذي جاء نتيجة مواجهة مباشرة بين الجمهوريين الذين سعوا إلى خفض كبير في الإنفاق وربط التمويل بتعديلات محددة، وبين الديمقراطيين الذين تمسكوا بتمويل كامل دون شروط سياسية، كشف عن توترات مؤسسية تتجاوز تفاصيل الموازنة، وتتمحور حول حدود صلاحيات السلطة التنفيذية، ودور الكونغرس في ضبط الأولويات الفدرالية، وتحديد مسار الإنفاق العام.
فعلياً، استعاد الجمهوريون جزءاً من النفوذ فيما اعتبروه تسوية مثّلت صورة "انتصار" للرئيس دونالد ترامب. اذ أن غياب تشريعات مفصلة تلزم الإدارة باحترام سلطة الكونغرس على الاعتمادات المالية، تكسب السلطة التنفيذية مساحة أكبر لتحويل الموارد نحو البرامج التي تفضّلها، ووقف التمويل عن البرامج غير المتوافقة مع أولوياتها. بالتالي، يمكن للإدارة أن تمضي بتنفيذ أجندتها.
هذا الواقع يضع الديمقراطيين أمام مأزق مزدوج. فمن جهة، لم ينجحوا في انتزاع مكاسب تؤكد قدرتهم على كبح توجهات البيت الأبيض؛ ومن جهة أخرى، ازدادت الانقسامات الداخلية داخل معسكرهم السياسي. فالإغلاق عمّق التوتر بين الجناح الليبرالي الذي أراد مقاومة أكثر صرامة لسياسات الرئيس، والجناح المعتدل الذي رأى أن قدرته على المناورة محدودة طالما ظل الجمهوريون يمسكون بزمام الأغلبية. هذه الانقسامات تبدو كجزء من معركة أوسع، حول هوية الحزب وخياراته في مواجهة البيت الأبيض.
اقتصادياً، أظهرت الأزمة مدى هشاشة قدرة الإدارة الفدرالية على امتصاص الصدمات السياسية. فالشلل الذي أصاب الوكالات أدى إلى خسائر كبيرة في قطاعات تمس النشاط اليومي للمواطنين الأميركيين. ووفق الأرقام الواردة في التقارير، بلغ حجم الخسائر في الناتج المحلي الإجمالي نحو 55 مليار دولار خلال الربع الأخير، مع تباطؤ معدلات النمو بـ 0.2%. ورغم أن جزءاً من هذه الخسائر يمكن أن يُعوَّض مع عودة النشاط، فإن التقديرات تشير إلى خسارة دائمة بنحو 11 مليار دولار، إلى جانب 3 مليار دولار تكلفة مباشرة للإغلاق وإعادة التشغيل.
قطاع الطيران مثّل مؤشراً صارخاً على هشاشة البنية الخدمية في لحظة تعطّل سياسي. فقد فرضت هيئة الطيران الفدرالية خفضاً في وتيرة الرحلات وصل إلى 10% بسبب نقص المراقبين الجويين. وفي السادس من تشرين الثاني /نوفمبروحده، تم إلغاء 2950 رحلة وتأخير 10،800 أخرى، وهو اليوم الذي وصف بالأسوأ منذ بداية الأزمة. كما تكبّد قطاع السفر والسياحة خسائر تقدر بنحو مليار دولار أسبوعياً، وتراجعت أعداد الزوار في المتنزهات الوطنية بنحو 425 ألف زائر يومياً، مع خسائر يومية تقارب 80 مليون دولار.
المشهد لم يكن أفضل في قطاعي الزراعة والغذاء، إذ أدى إغلاق نصف مكاتب وزارة الزراعة وتسريح ثلثي موظفي وكالة خدمات المزارع إلى تجميد القروض والدعم وتعطيل برامج التعويض، إلى جانب وقف نشر البيانات الزراعية التي يعتمد عليها المزارعون. وعلى الجانب الاجتماعي، ظهرت مخاوف بين أكثر من 40 مليون أميركي يعتمدون على برامج التغذية الفدرالية، مع أن القضاء سمح باستمرار صرف الإعانات، لكن تسريح 98% من موظفي البرامج فاقم الضغط على بنوك الطعام والجمعيات.
وفي قطاع التكنولوجيا والأبحاث، تعطّلت المراجعات التنظيمية وتأجلت قضايا مكافحة الاحتكار، وتوقفت المؤسسة الوطنية للعلوم عن إصدار مئات المنح البحثية، فيما أوقفت المعاهد الوطنية للصحة قبول مرضى جدد في التجارب السريرية. كما تراجع تدفق العقود الفدرالية التي تضخ 13 مليار دولار أسبوعياً في الاقتصاد، الأمر الذي أثر على الشركات الصغيرة، في حين ارتفعت المخاطر السيبرانية نتيجة تقليص فرق الأمن وتعطّل تحديث الأنظمة.
لكن ربما كانت الضربة الأكثر عمقاً على مستوى الثقة المؤسسية. فكما يشير الباحث دونالد موينهين، خلّف الإغلاق "ندبة إضافية داخل الجهاز البيروقراطي"، وزاد من شعور الموظفين بأن الدولة تعاقبهم كلما فشل السياسيون في تمرير الموازنة. وتُظهر التجارب السابقة، بحسب موينهين، ارتفاع معدلات الاستقالات بعد كل إغلاق، ما ينذر بتراجع القدرة على ابقاء الكفاءات داخل الإدارة.
يمكن القول، أن الاغلاق أعاد رسم حدود القوة في واشنطن، وسلط الضوء على تصدعات داخل الحزبين، وكشف هشاشة البنية البيروقراطية في مواجهة الحسابات السياسية، وأظهر قدرة الأزمات المصطنعة على إلحاق ضرر اقتصادي واسع خلال أسابيع قليلة.
وبينما يعود الموظفون إلى أعمالهم وتستأنف المؤسسات نشاطها، يبقى السؤال حول ما اذا تجاوزت واشنطن الأزمة فعلاً، أم أنها دخلت مرحلة جديدة من الاستقطاب العميق الذي يجعل من كل مفاوضات موازنة ساحة اختبار تتكرر فيها ملامح الشلل ذاته؟ ما يظهر حتى الآن أن الانقسام لم يُطوَ، بل أعيد ترسيخه، وأن الاتفاق المؤقت ليس نهاية للأزمة، بل مجرد هدنة في مواجهة طويلة لم تُحسم بعد.