الجمعة 03 تشرين أول , 2025 03:54

إغلاق شارع الرشيد: كيف تُحوّل القوة العسكرية المدنيين إلى أهداف مقبولة؟

الدمار في غزة

حين أعلن جيش الاحتلال "الإسرائيلي" عن إغلاق شارع الرشيد الساحلي، باتجاه الشمال، والسماح فقط بالخروج جنوباً، بدا الأمر في ظاهره خطوة "إدارية" لضبط حركة المدنيين في قطاع غزة. لكن سرعان ما تبيّن أن هذا القرار ليس تفصيلاً عسكرياً عابراً، بل جزء من استراتيجية متكاملة تستهدف فرض واقع جديد على غزة: تهجير قسري، تطويق عسكري، وتجريد السكان من صفتهم المدنية، بما يسمح لاحقاً باعتبارهم "أهدافاً مشروعة" لآلة الحرب. هنا تتجلى إحدى آليات ما يمكن تسميته "صناعة الإذعان": تحويل الجرائم الكبرى إلى سياسات مقبولة، عبر خطاب سياسي-إعلامي يُشرعن استخدام العنف ضد مئات آلاف المدنيين.

خطاب القوة: من المدني إلى "المقاتل الافتراضي"

تصريحات وزير الدفاع "الإسرائيلي"، يسرائيل كاتس، التي صنّف فيها كل من يبقى في مدينة غزة مقاتلاً أو داعماً للإرهاب، ليست مجرد انفعال سياسي. إنها تمثل صياغة قانونية-عسكرية تفتح الباب أمام توسيع قواعد الاشتباك بلا حدود. فالتمييز بين المدني والمقاتل، وهو أساس القانون الدولي الإنساني، يُلغى هنا بالكامل، ويُستبدل بمفهوم خطير: الوجود بحد ذاته في المدينة يُعتبر جريمة.

هذا التحوّل يُسقط عن السكان أي حماية، ويحوّل الأبرياء إلى أهداف عسكرية بقرار سياسي. ما نشهده إذن ليس فقط حرباً ضد المقاتلين، بل إعادة تعريف لمعنى المدني بما يخدم المنطق الاستعماري "الإسرائيلي".

من حرب المدن إلى سياسة الأرض المحروقة

بعد هجمات السابع من أكتوبر، وسّع جيش الاحتلال قواعد الاشتباك بشكل كبير، ليسمح — وفق تقارير إعلامية — بتعريض حياة عشرين مدنياً فلسطينياً للخطر مقابل استهداف مقاتل فلسطيني واحد، حتى لو كان في تصنيف قتالي منخفض. هذا القرار، في ذاته، يمثل انحرافاً جذرياً عن معايير "التناسب" التي ينص عليها القانون الدولي.

لكن تصريحات كاتس الأخيرة تمثل نقلة أخطر: التحول من حرب المدن الدقيقة إلى تكتيك الأرض المحروقة. ففي حرب المدن، تحاول الجيوش، نظرياً على الأقل، استخدام أسلحة دقيقة لتفادي المجازر الواسعة، مع ما يتطلبه ذلك من قوات برية كبيرة وتضحيات أكبر في صفوف الجنود. أما سياسة الأرض المحروقة، فتعني القصف المساحي، تدمير الأبنية، تهجير السكان، وتقليص الحاجة إلى مواجهة مباشرة. إنها وصفة لتسريع الحسم العسكري على حساب المدنيين، ولكن بثمن سياسي ودبلوماسي ثقيل، يتمثل في اتهامات بارتكاب جرائم حرب وتطهير عرقي.

"إغلاق الرشيد": الحرب كأداة للتهجير

إغلاق شارع الرشيد ليس مجرد خطوة تكتيكية. إنه جزء من عملية إعادة هندسة ديموغرافية لقطاع غزة. فالجيش "الإسرائيلي" أغلق سابقاً شارع صلاح الدين، وهو الشريان الرئيسي في شرق القطاع. ومع إغلاق الرشيد بالاتجاه الشمالي، تُقطع المدينة بالكامل عن محيطها. الرسالة واضحة: على سكان غزة أن يغادروا جنوباً، أو يُصنَّفوا أعداءً.

هذا الشكل من الحصار يعكس مشروعاً استراتيجياً أقرته "الحكومة الإسرائيلية" في أغسطس/آب الماضي، يقضي بإعادة احتلال غزة تدريجياً بدءاً من مدينة غزة. إغلاق الطرق، تجويع السكان، ومنع المساعدات، كلها أدوات لإفراغ الشمال من سكانه، وتحويله إلى منطقة عمليات عسكرية مغلقة.

صناعة الإذعان في الغرب: الشرعنة الإعلامية للعنف

لكن السؤال الذي نكرره دائمًا: كيف يُقبل هذا النوع من السياسات في الغرب؟ كيف يمكن لدول تدّعي الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان أن تتغاضى عن تحويل ما يقارب نصف مليون مدني إلى "رهائن" عسكريين؟

الجواب يكمن في آلية "صناعة الإذعان". فالإعلام الغربي السائد يعيد صياغة المشهد بلغة أمنية: "إسرائيل تدافع عن نفسها"، "غزة معقل للإرهاب"، "المدنيون دروع بشرية". بهذه العبارات، يتم تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم وتحويلهم إلى جزء من المعركة. وهكذا يصبح قصف المنازل، المستشفيات، والمدارس "أضراراً جانبية"، لا جرائم موثّقة.

الأكثر خطورة أن هذه اللغة الإعلامية لا تكتفي بالتبرير، بل تخلق واقعاً ذهنياً لدى الرأي العام الغربي: "إسرائيل" تقاتل من أجل البقاء، والفلسطينيون مجرد امتداد لحماس. بهذا المعنى، فإن إغلاق شارع الرشيد ليس مجرد قرار عسكري، بل هو أيضاً عملية خطابية-إعلامية تضمن القبول الغربي باستمرار المجازر.

بين "الأمن" و"الإبادة": تفكيك المفارقة

"إسرائيل" تبرر كل سياساتها بضرورات الأمن. لكن الأمن، في جوهره، لا يعني استقراراً إلا إذا كان متبادلاً. أي أمن يمكن أن يقوم على تدمير مدينة كاملة؟ أي أمن يقوم على تهجير السكان وتجويع الأطفال؟

هنا تبرز المفارقة الكبرى: باسم الأمن، تُرتكب أفعال تمثل النقيض التام له. فالقصف المستمر، والحصار الخانق، وإغلاق الشرايين الحيوية، كلها تولّد انفجارات اجتماعية وسياسية لا يمكن لأي نظام احتلال أن يسيطر عليها. من هذه الزاوية، يصبح خطاب الأمن مجرد واجهة لسياسة إبادة ممنهجة، هدفها تفريغ الأرض من سكانها وإعادة هندستها بما يخدم المشروع الاستيطاني.

القانون الدولي: غائب حاضر

إعلان وزير الدفاع "الإسرائيلي" أن الباقين في غزة "إرهابيون" يمثّل، بحسابات القانون الدولي، تحريضاً مباشراً على ارتكاب جريمة حرب. فهو يشرعن استهداف المدنيين، ويُبطل القاعدة الأساسية لاتفاقيات جنيف: حماية غير المقاتلين. لكن أين يقف المجتمع الدولي؟

الجواب هو ذاته منذ عقود: مواقف لفظية، بيانات قلق، وبعض الدعوات للتحقيق، لكنها لا تتجاوز السقف الرمزي. "إسرائيل" تعرف ذلك جيداً، وتدرك أن أي محاسبة فعلية مستبعدة، ما دامت تتمتع بغطاء أميركي-غربي مطلق. وهنا يتجلى معنى "الاستخفاف": استخفاف بالقانون، بالمجتمع الدولي، وبكل قيمة إنسانية.

المقاومة والمعادلة المعكوسة

في المقابل، لا يجري الحديث عن رد فعل المقاومة إلا في إطار "الإرهاب". لكن الصواريخ التي تُطلق من شمال غزة باتجاه المستوطنات المحيطة ليست إلا تعبيراً عن معادلة معكوسة: إذا كانت "إسرائيل" تسعى إلى صناعة الإذعان بالقوة، فإن المقاومة تسعى إلى كسر هذه المعادلة عبر استمرار الضغط. الأسرى "الإسرائيليون" في غزة يمثلون بدورهم عنصراً معقداً في هذه المعادلة: ف"إسرائيل" تريد الحسم العسكري دون المساس بهم، بينما المقاومة تراهم ورقة قوة.

من عسكرة المدينة إلى عسكرة الوعي

إغلاق شارع الرشيد، في جوهره، ليس مجرد إجراء ميداني. إنه جزء من حرب أوسع على الوعي. فالمدينة تتحول إلى "ميدان عمليات"، سكانها إلى "أهداف"، والمجتمع الدولي إلى "متفرج صامت". هذه هي صناعة الإذعان في صورتها العارية: تحويل العنف المنهجي إلى سياسة عادية، وقبول فكرة أن المدنيين يمكن أن يصبحوا مشروعيين للاستهداف.

لكن كما يذكّرنا سيد الشهداء سماحة السيد حسن نصر الله دائماً: هذه الصناعة ليست قدراً. فضحها، تفكيك خطابها، وكشف تناقضاتها، هو الشرط الأول لمقاومتها. وإلا فإن العالم سيجد نفسه شريكاً في أخطر جريمة: تحويل غزة إلى نموذج حديث للإبادة الجماعية، تحت غطاء أمني وقانوني زائف.


الكاتب:

د.محمد الأيوبي

كاتب صحفي فلسطيني
بكالوريوس في الصحافة والإعلام
دكتوراه في الحقوق
mohammedwajeehal@gmail.com




روزنامة المحور