لم تكن وقاحة الرئيس الأميركي دونالد ترامب يوماً بحاجة إلى تكنولوجيا متقدمة، لكنها هذه المرة اتخذت شكل فيديو مُصنَّع بالذكاء الاصطناعي، يُروّج لما يسميه "مستقبل غزة" بعد أن يُعاد إعمارها على يد "القوى العظمى" – أي إسرائيل والأميركيين فاحشي الثراء. الفيديو الذي نشره ترامب، وهو يجلس في عالمه الموازي، يعكس رؤية استعمارية بامتياز: غزة ليست إلا عقاراً استثمارياً يُمكن تحويله إلى منتجع فاخر بمجرد إزالة سكانها.
الفيديو يبدأ بمشاهد للدمار الذي لحق بالقطاع، لكن بدلاً من أن يكون تذكيراً بالمجازر التي ارتكبتها إسرائيل، يأتي على طريقة أفلام الإعلانات العقارية: الدمار هو "المشكلة"، والحل؟ تحويل غزة إلى "نيويورك جديدة" ترفرف فوقها أعلام أميركا وإسرائيل، وتديرها شخصيات من طراز ترامب وإيلون ماسك وصهره جاريد كوشنر. هذه ليست رؤية لمستقبل غزة، بل إعلان صريح أن التطهير العرقي يمكن تسويقه على أنه مشروع تنموي!
اللافت في هذا الفيديو ليس فقط مضمونه السياسي، بل أيضاً طريقة إنتاجه. الفيديو لا يحتوي على لقطات حقيقية، بل هو نتاج الذكاء الاصطناعي، أي أنه مصنوع بالكامل وفق هوى مُصمميه. هنا، يتجلى الفارق بين الدعاية الكلاسيكية والدعاية التكنولوجية: لم يعد من الضروري إقناع المشاهدين بالواقع، بل يمكن خلق واقع جديد من الصفر. في عالم ترامب، غزة ليست قضية وطنية، بل فرصة تجارية، وحلّها لا يكون بإنهاء الاحتلال، بل بإعادة رسمها كما يشاء المستعمر.
يُظهر الفيديو شواطئ غزة وقد تحولت إلى مساحات مفتوحة لليخوت الفاخرة، والفنادق الزجاجية تعكس الشمس كما لو أن الأرض لم تشهد حصاراً وتجويعاً استمر لعقود. لا يوجد أثر لأطفال فقدوا عائلاتهم، أو لمنازل سويت بالأرض، أو لناس فقدوا أطرافهم تحت القصف. غزة كما يتخيلها ترامب: بلا فلسطينيين، بلا مقاومة، بلا تاريخ، مجرد "مساحة" يمكن تخصيصها لمستثمري العقارات والمضاربين الدوليين.
التفاصيل التي يتضمنها الفيديو تكشف الهدف الحقيقي من نشره. المشاهد المتتالية تُركز على كبار الشخصيات الأميركية والإسرائيلية التي تمتلك المال والسلطة: ترامب نفسه حاضر كالإمبراطور المستعمر، ماسك يلقي بأوراق نقدية في الهواء، كوشنر يُجري محادثات مع رجال أعمال، ونتنياهو يبتسم وهو يراقب المشهد من بعيد. وكأن غزة قطعة أرض لم تُحسم ملكيتها بعد، ويجري الآن تقسيمها بين اللاعبين الكبار.
حتى المشاهد الترفيهية التي تظهر في الفيديو ليست عبثية. راقصة تؤدي حركات غريبة على أنغام موسيقى إلكترونية، مشهد احتفالي لترامب يرفع كأس نبيذ، ألعاب نارية تُضيء السماء... كل هذا مقصود. هذه لغة الاستعمار الحديث: استعراض القوة الناعمة بدلاً من الدبابات، وإظهار الاحتلال على أنه "إدارة جديدة" قادرة على تحويل أي أرض إلى مشروع استثماري ناجح. هذه الدعاية ليست لجماهير غزة، بل للمستثمرين، للشركات، ولمن يبحث عن "فرص" في الشرق الأوسط الجديد الذي تحلم به إسرائيل والإمبراطورية الأميركية.
من الناحية الفنية، الفيديو يستغل الذكاء الاصطناعي لصنع وهم بصري متقن، لكنه يفضح نفسه بسهولة. الصور تبدو مبهرة، لكن التفاصيل تُظهر عدم فهم عميق للبيئة الفلسطينية: الناس الذين يظهرون في الفيديو لا يشبهون سكان غزة، الملابس غير متوافقة مع المجتمع، حتى اللغة البصرية تبدو كما لو أن غزة أصبحت مدينة أميركية على شواطئ كاليفورنيا. هذه ليست مجرد أخطاء تقنية، بل انعكاس لفكرة استعمارية قديمة: الاحتلال لا يحتاج إلى فهم السكان، بل إلى استبدالهم تماماً.
هذا النوع من الدعاية يُشكل خطراً حقيقياً، لأنه لا يُناقش ولا يُعرض كوجهة نظر، بل يُقدَّم كحقيقة بصريّة لا تقبل الجدل. حين يرى الناس هذا الفيديو، فإنهم لا يُطلب منهم التفكير في معاناة الفلسطينيين، بل في مدى "روعة" غزة بعد أن تتحول إلى مدينة غربية حديثة. بهذه الطريقة، تُمحى القضية الأصلية وتُستبدل بصورة مزيفة.
ترامب يبيع الوهم. غزة ليست للبيع، ولا يُمكن تحويلها إلى منتجع فاخر بجرّة قلم أو بتصميم فيديو مزيف. مهما حاول الذكاء الاصطناعي أن يصنع نسخة جديدة من القطاع، فإن الحقيقة ثابتة: غزة جزء من فلسطين، وسكانها لن يُمحوا لا بالقصف، ولا بالدعاية، ولا بأحلام المستعمرين.
أما الفيديو نفسه، فلا يعدو كونه دعاية انتخابية رخيصة لرجل يبحث عن أي استعراض يعيده إلى المشهد، بعد أن أصبحت طموحاته تتعدى الواقعية في بعض الأحيان. المشكلة ليست في غزة، بل في الغرب الذي لا يزال يُصدّق أن بإمكانه إعادة رسم المنطقة وفق مقاساته الاستعمارية، متناسياً أن الشعوب لا تُمحى، وأن المقاومة ليست مجرد فكرة بل واقعٌ مُتجذرٌ في التاريخ.