منذ سقوط النظام، تسارع "إسرائيل" إلى التوسع في احتلال مرتفعات الجولان والأراضي السورية، بينما تعمل تركيا على تعزيز نفوذها ودورها مع الحكومة الجديدة، إرضاءً لطموحاتها الإقليمية، و"إعادة التاج العثماني إلى مجده السابق". تشير حركة كلا الطرفين إلى نوع من السباق التنافسي الجيوسياسي مع لحاظ اختلاف المصالح والأهداف بينهما. ويقرأ الكيان المؤقت الحركة التركية تهديدًا استراتيجيًّا. يراه البعض أحد عوامل مبادرة الكيان لملء الفراغ في سوريا.
ما هو مصير العلاقة التركية الإسرائيلية بلحاظ المصالح والأهداف المتغايرة والطموحات المتضاربة؟ هل تتطور باتجاه الاحتكاك، وكيف يكون شكله: تصادمي أو توافقي أو رمادي؟ والسؤال الأساس: هل تتواجه تركيا والكيان المؤقت في سوريا في فترة ما أو هناك مساحة من الالتقاء واقتسام النفوذ والتحاصص؟
من الملفت أن لجنة "ناجل"، وهي لجنة "فحص ميزانية الأمن وبناء القوة"، أوصت الكيان المؤقت بالاستعداد للحرب مع تركيا. وقد حذّرت اللجنة التي يرأسها يعقوب ناجل، الرئيس السابق لمجلس الأمن القومي، في تقريرها الصادر في 6 كانون الثاني 2025، من أن "تعزيز قوة تركيا في سوريا قد يشكّل تهديدًا مباشرًا لإسرائيل". فهل هذا السيناريو الذي يصفه التقرير بأنه "تهديد محتمل خطير، قد يكون أكثر خطورة من التهديد الإيراني بسبب قربه من إسرائيل" سيناريو واقعي وسوف يحدد سياسات الكيان تجاه تركيا في المرحلة المقبلة أو أنه في سياق التضليل، ومتعمّد فيه المبالغة في تقديم صورة أردوغان "الفاتح" وصانع الانتصارات حتى يسيّل لاحقًا في تطويع الداخل التركي تجاه مشروع التطبيع؟ وهل فعلًا تركيا، كما تزعم السردية العبرية والتركية المنتشرة مؤخرًا، في مسار عرقلة مشاريع الكيان المؤقت في "الهيمنة" على المنطقة؟ هذه الأسئلة مشروعة في قراءة معالم المرحلة المقبلة بين أكثر فاعلين "طامحين" في أكثر الدول المؤثرة جيوسياسيًّا في المنطقة.
تنطلق الورقة المرفقة أدناه من العلاقة التركية الصهيونية قبل انهيار النظام السوري، وتقف عند الخطاب والسلوك الصهيوني تجاه تركيا وسوريا ما بعده، مرورًا بمصالح الطرفين في سوريا، وصولًا إلى محكّات النزاع، وسيناريوهات العلاقة المحتملة.
خلاصة الدراسة
تكمن المصلحة الرئيسية للكيان في تقويض التهديدات الأمنية الناشئة من الجهات الفاعلة المتطرفة، نتيجة تداعيات حكم هذه الجماعات "الإيديولوجية" والمتمثلة في انتقال الفوضى الى الأردن وتهريب السلاح للضفة. يرى الكيان المؤقت في سوريا تهديدًا حال حصول فلتان أمني للجهات الفاعلة وعدم ضبط سياساتها "المتطرفة" وانتشار التطرف وتمدده باتجاه الأردن فالكيان المؤقت.
أما تركيا فتهدف إلى اكتساب السيطرة العسكرية والاقتصادية على سوريا والهيمنة عليها، وهي عضو في الاتحاد الأوروبي و"ليست خصمًا" للولايات المتحدة ولا للكيان. بيد أن أي تهديد على الكيان لن يتردد الأخير في التعامل معه، وبطبيعة الحال تتسق الأهداف الأميركية الإسرائيلية بشأن حماية الأمن الأنطولوجي "الوجودي" للكيان المؤقت، والحفاظ على الدور الوظيفي للكيان بعد مساعي ترميمه وتعافيه من حربي لبنان وغزة. الغاية التي توجّه واشنطن لضبط حركة الفاعلين الجدد في سوريا قدر الإمكان، والتعامل مع مستجدات الأحداث وتطورها في سياق "دوزنة" نقاط التقاطع والافتراق بما يخدم المصلحة الأميركية ويحفظ نفوذها في المنطقة.
وفي الأمد البعيد، قد يسعى الأمريكي إلى التقدم باتفاقيات التطبيع باستثمار المحادثات الدبلوماسية بين سوريا وإسرائيل وتركيا، خاصة مع التلويح بالتهديد الكردي واستخدامه في ضبط "الجموح" التركي، سيما حال نجاح الأميركي في توحيد الصف الكردي في سوريا والرد من خلاله على الضغوط التركية على قسد. المشروع التوسعي التركي والمشروع الاستيطاني الصهيوني في تنافس لكن دون خصام حتى الآن، ومصلحة كل الأطراف في إيجاد حل؛ لا مصلحة للكيان المؤقت وتركيا في الصدام المباشر. وهذا لا يلغي نسبة احتمال التصادم مهما ضعفت، وفي حين تقتضي المصلحة المشتركة التركية الإسرائيلية الأميركية استثمار فرص التحولات الأخيرة في سوريا والمنطقة، إلا أن عملية استعادة التوازن والضبط والاحتواء لن تخلو من إجراءات "عدوانية" أو صراع على النفوذ. وقد تهيمن اتفاقيات التطبيع على المشهد العام ويعيد أردوغان إحياء "سلام الشجعان".
يرجح أن يكون الاحتكاك الإسرائيلي التركي -على فرض حصوله- عبر الأكراد، وهذا الاحتكاك غير المباشر ترتفع مؤشراته حال: 1) وجود قرار إسرائيلي بتقويض شرعية الحكومة السورية الجديدة في ظل استمرار تصرفات الكيان في شلّ عملها عبر استمرار الإجراءات العدوانية التي قد تدفع إلى تعزيز التطرف وتشلّ نفوذ الحركة التركية في سوريا؛ 2) الخلاف في تقسيم المصالح التركية الإسرائيلية التنافسية (المياه، الزراعة، القمح، الطاقة) مع المدى المتوسط أو البعيد؛ 3) عدم إنشاء دولة للأكراد وتعرض القومية الكردية للتهميش بينما يؤمن كل طرف مصالحه أو على العكس إنشاء دولة كردية دون تسوية مع الأتراك وترفع التهديد على تركيا؛ 4) تقويض نفوذ تركيا في إعادة الإعمار ودورها السياسي ونشر قوات دولية في سوريا بذريعة الرقابة والإشراف.
وإذا صحّت معطيات التقرير الأمني الإسرائيلي بنمو التهديد التركي أكثر من التهديد الإيراني وضرورة الاستعداد الإسرائيلي له في السنوات المقبلة، قد تقتضي مصلحة الكيان في اختراق تركيا من الداخل، وتحديدًا الأولوية تبدأ في سوريا "الهشة" عبر ضرب مصالح أنقرة وامتدادها هناك.
لتحميل الدراسة من هنا