تتسم العلاقة بشكل عام مع المؤسسات الإعلامية في لبنان إن كانت محلية او عربية بالاضطراب، ما يتجلى عند كل أزمة او حدث أمنى أو سياسي، وسريعاً تصبح وسائل الإعلام ذاتها بموظفيها ومراسليها ومذيعيها وصحفيها في مرمى الاتهام بسبب إطلاق بعضهم لمواقف وتحليلات وصولاً الى خطابات تحريضية اثبتت واقعاً أنها إن لم تكن تقدم خدمة مجانية للعدو لاستهداف البيئة المدنية للمقاومة ومؤسساتها، فهي باعتمادها على لغة التحريض تعتبر في نظر القوانين والمواثيق الدولية جريمة تستوجب المساءلة والعقاب. كررت قناتَي LBCI وMTV، نقل المزاعم الإسرائيلية منذ بداية العدوان من دون أي بعد نقدي أو تشكيك فيها، خصوصاً تلك التي كررها الاحتلال حول قصف مخازن أسلحة أو استهداف مراكز لحزب الله، بينما كان يسقط المدنيون شهداء بالعشرات، كما تستهدف المباني والمنشآت المدنية إضافة الى المؤسسات الصحية والإسعافية وطواقمها.
لكنّ نقل الرواية الإسرائيلية تطوّر من الأخبار إلى التقارير الخاصة، يبقى أشهرها التقرير الذي نشرته MTVعلى موقعها الإلكتروني وجاء فيه "كل مركز إيواء، خصوصاً في بيروت وضواحيها، يضم مسلحاً من حزب الله يتولى مهمة التنسيق في كل مركز"، في تحريض على استهداف هذه المراكز التي نزح إليها آلاف النازحين من قرى الجنوب والبقاع وضاحية بيروت الجنوبية. وبعد انتقادات واسعة للتقرير حذفته القناة اللبنانية.
لم تكن تلك المرة الأولى التي تروّج فيها MTV لأخبار مشابهة تتسق مع الرواية الإسرائيلية، بعد كل غارة أو استهداف أو مجزرة في لبنان (وغزة)، إذ سبق أن رددت مراسلة المحطة نوال بري بعد استهداف الضاحية الجنوبية في سبتمبر الماضي، أن ما قصفه الاحتلال هو مخازن أسلحة لحزب الله، ما أثار موجة غاضبة مما قالته، على اعتبار أنها تبرّر القصف الإسرائيلي لمناطق يسكنها عشرات المدنيين.
عند متابعة تغطية قناة MTV أو قراءة تغريداتها أو التقارير التي تنشرها على موقعها الرسمي، يمكن إيجاد عشرات الأخبار المنقولة عن مصادر إسرائيلية من دون أي تدقيق. لنأخذ على سبيل المثال ما نقلته المحطة في الثامن من أكتوبر/ تشرين الأول الحالي عن الجيش الإسرائيلي بدخول عناصر من حزب الله إلى مبنى مدرسة في قرية طيرحرفا، واستخدامها لنشر منصة صواريخ موجّهة نحو الأراضي الفلسطينية المحتلة، وقد استهدف الاحتلال بعدها بوقت قصير "المخربين داخل المدرسة".
راجع موقع مسبار لتقصي الحقائق، ومقطع الفيديو الذي نقلته القناة عن الجيش الإسرائيلي، ليتبيّن عدم وجود أي مسلحين أو عناصر كما زُعم، إذ تظهر اللقطات فقط الاستهداف والانفجار الناتج عن الغارات الجوية الإسرائيلية.
إضافة الى ذلك، عملت القناة ذاتها من خلال أحد أشهر برامجها السياسية على تبني خطاب تحريضي واضح وسردية اتهامية تماهت مع استهداف العدو لمؤسسة القرض الحسن وهي جمعية تكافلية مالية لبنانية، تهمتها أنها مؤسسة تنتمي للجسم الاجتماعي لحزب الله، وكان واضحاً الخطاب التحريضي المشكك في هذه المؤسسة ودورها والذي قدم بلا شك خدمة للعدو إن لم يكن بتحريضه على استهدافها، فبالتغطية على هذا الاستهداف وتبريره.
على خطّ موازٍ تلعب قناة LBCI لعبة مختلفة، فتقدّم على الشاشة تقارير إنسانية و"متزنة" للأوضاع على الأرض، مع مراسليها المنتشرين في لبنان. أما على حساباتها على مواقع التواصل الاجتماعي، فتردّد ما ينشره جيش الاحتلال من دون أي مسافة نقدية أو تشكيك. لنأخذ على سبيل المثال ما نشرته المحطة اللبنانية عبر حسابها في "إكس" بعد وقت قصير من المجزرة التي ارتكبها الاحتلال في مدينة النبطية الجنوبية، وأدت إلى استشهاد عدد من المدنيين، بينهم رئيس بلدية النبطية أحمد كحيل، وأعضاء في المجلس البلدي. نشرت القناة: "الجيش الإسرائيلي يقول إنه ضرب عشرات الأهداف لحزب الله في النبطية، وفكك بنية تحتية تحت الأرض". هكذا، من دون أي إضافة أو نقصان، نشرت الرواية الإسرائيلية على اعتبارها خبراً مؤكداً وموثوقاً. كما نشرت المؤسسة اللبنانية للإرسال إنترناشونال خبراً بعد المجزرة التي ارتكبها الاحتلال في بلدة أيطو في شمالي لبنان، أن المنزل المستهدف مستأجر من قبل أحد مراسلي قناة المنار (تابعة لحزب الله) من دون أي تدقيق في المعلومة العشوائية، في محاولة لتقديم سياق سياسي - أمني للاستهداف، لتعود لاحقاً وتنفي الخبر، علماً أن المجزرة سقط فيها 22 شهيداً.
يمكن كتابة آلاف الكلمات عن أداء بعض المؤسسات الإعلامية اللبنانية، وأخطائها وعشوائيتها في التغطية. صحيفة النهار (التي تعتبر الاكثر مهنية وعراقة في العمل الصحفي) نشرت قبل أيام قليلة، بعد استهداف حزب الله قاعدة بنيامينا العسكرية، منشوراً على "إنستغرام"، حاول إعطاء بعد إنساني لقصص جنود الاحتلال الذين قتلوا في الهجوم. حمل المنشور عنوان "جنود بنيامينا وعشاؤهم الأخير"، وعلى امتداد ست صور، تحاول "النهار" التكهّن بما كان يتناوله الجنود لحظة قتلهم بعبارات عاطفية من نوع "لكن... تبقى وجبة شنيتزل هي المفضلة، رصدتها صور الهجوم في الأطباق المبعثرة على الطاولات".
بشكل عام تأخذ تغطية صحيفة النهار للعدوان على لبنان هامشاً واسعاً من الانتقادات، فمثلا، استهدف الاحتلال قافلة مساعدات على طريق بلدة العين البقاعية. نشرت "النهار" الخبر على حسابها على "إكس" على الشكل التالي "صورة لقافلة المساعدات التي صودف مرورها بمنطقة العين خلال الغارات الإسرائيلية"، في إشارة إلى أن الاحتلال لم يكن يستهدف القافلة قصداً، علماً أنه منذ اليوم الأول للعدوان كررت إسرائيل قصف عمّال الإغاثة في مختلف المناطق.
عملياً نحن أمام صورة تقول كالتالي:
- قنوات اعلامية المفروض أنها تمتلك أدوات المهنية والسلوك الإعلامي المتزن، ولديها ميثاق شرف إعلامي، لكنها متورطة بشكل واضح اليوم في مجاراة سردية العدو، والأخطر من ذلك التماهي معها، وتبني خطاب تحريضي يبرر للعدو ارتكابه جرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب المستمرة في حق بيئة المقاومة التي تمثل جزءً أساسيا من النسيج الاجتماعي والسياسي اللبناني وبالتالي التحريض المسجل هو تحريض على مواطنين لبنانيين، وعلى بيئة لبنانية وعلى أرض لبنانية.
- قنوات إعلامية لبنانية تنشر خطاب الكراهية وتحرض داخلياً ضد بيئة حزب الله.
- قنوات اعلامية تحرض بشكل واضح على ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب في حق بيئة لبنانية مقاومة بمدنييها ومؤسساتها ومناطقها.
تبني خطاب الكراهية: جريمة ضد الانسانية
يمكن مقاضاة خطاب الكراهية التي تروج له الوسائل الإعلامية بعدة طرق مختلفة نظراً لاختلاف القوانين الوطنية في البلدان. ولكن، بسبب قدرتها المثبتة على إشعال الإبادة الجماعية والمساهمة فيها، فإن استخدام وسائل الإعلام المحرّضة على الكراهية من أجل إثارة تطهير جماعات قومية وإثنية ودينية معينة، كلياً أو جزئياً، يمكن مقاضاته بموجب القانون الدولي بتهمة التحريض على الإبادة الجماعية.
اعتبرت محاكم نورمبرغ التحريض على الإبادة الجماعية جريمة ضد الإنسانية. ولكن عُدل هذا التعريف بعد الجرائم المرتكبة في يوغسلافيا (سابقاً) ورواندا، وقُدم تعريف جديد لمحاكمات رواندا، ووفقاً له، تعتبر الدعاية الإعلامية المحرّضة على الكراهية بمثابة جريمة ضد الإنسانية عند مشاركتها في التحريض المباشر وغير المباشر للإبادة الجماعية، والتي يجب تعريفها على أنها تدفع المرتكبين (الجناة) مباشرة من أجل ارتكاب الإبادة الجماعية، سواء من خلال الخطب أو الصراخ أو التهديدات التي يصرحون بها في التجمعات العامة أو من خلال بيع أو نشر المواد المكتوبة أو المطبوعة، أو من خلال عرض اللوحات أو الملصقات أو من خلال وسائل الاتصال السمعي والبصري الأخرى.
إنّ مبدأ حرية الإعلام معترف به في إطار الحماية الدولية لحقوق الإنسان، ويشكل مبدأً عاماً للقانون الدولي، كما اعترفت الجمعية العامة للأمم المتحدة في سنة 1946 بحرية الإعلام، وأنها حق أساس للإنسان، وكرستها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وفي العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية. ويزيد هذا المبدأ تعزيزاً اعتراف الدول به في دساتيرها وتشريعاتها. وإذا كان مبدأ حرية التعبير أو الاتصال من المبادئ الأساسية لقانون الإعلام، فإنّ التأكيد على هذا المبدأ يتبعه بالضرورة وضع تحديدات لكل ما يمكن أن يشكل تعسفاً للحق، أو تهديداً للأمن، أو إلحاقاً بالضرر لحقوق وحريات الآخرين.
ومن هنا يتحتم على وسائل الإعلام التقيّد بهذه التحديدات القانونية، والتمسك بأخلاقيات المهنة في أوقات السلم والحرب، بما يضمن الحفاظ على قدسية الرسالة الملقاة على عاتقها. ويتعاظم دور وسائل الإعلام وتبدو خطورتها أثناء النزاعات المسلحة بصورها المختلفة، إذ تستغلها الدول أو الجهات الداعمة لطرف من أطراف النزاع للتعبئة الجماهيرية، والشحن الفكري، وخلق التصاميم الإجرامية في تفكيرهم، وحثهم على الاجرام، وتحريضهم على ارتكاب جرائم ذات النتائج الخطيرة، مما تنهض المسؤولية الجنائية لمالكي هذه الوسائل ومستخدميها وفق القانونين الداخلي والدولي.
من هذا المنطلق تتحمل هذه القنوات بسرديتها المضللة ودورها الدعائي لصالح الكيان الصهيوني المسؤولية عن هذه الافعال التي تجرّمها المواثيق الدولية، كما مواثيق الشرف الاعلامي.