في ظل الحديث المتزايد حول وجهة نظر الإدارة الأمريكية الجديدة حيال العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة، ظهر جليًا أن الرئيس الأمريكي جو بايدن وعلى الرغم من دعمه لكيان الاحتلال في حقه بـ "الدفاع عن نفسه"، إلا أن أحاديثه في الجلسات المغلقة كانت تدعو إلى وقف إطلاق النار السريع، فبحسب اعتقاده أن "القدرة العسكرية الإسرائيلية قد استنفدت أمام ضربات حماس الصاروخية".
وكان معهد السياسات والاستراتيجيا في مركز هرتسليا قد نشر مقالًا تحت عنوان "الولايات المتحدة والتصعيد في غزة: دعم قوي، لكن ليس شيكاً مفتوحاً"، يشير فيه إلى أن صبر أمريكا بشأن التصعيدات الإسرائيلية بدأ بالنفاذ نتيجة لعاملين رئيسيين ساهما بتغيير رأي بايدن، وهما تكلفة الحرب الباهظة والتي لا تعود بالفائدة على من "إسرائيل" وأمريكا، والثاني الضغط الذي مارسه الحزب الديمقراطي والكونغرس عليه.
وخلص المقال إلى أن أي تصعيد في المنطقة مرتبط بالتوقيت الأميركي والوقت الذي تكون الإدارة الأميركية مستعدة لإعطائه لكيان الاحتلال لاستنفاد أهدافه العسكرية والسياسية.
النص المترجم:
التصعيد في غزة كان أول اختبار لإدارة بايدن في الساحة الفلسطينية. فخلال القتال عملت الإدارة بقيادة الرئيس، وبمشاركة جميع المسؤولين الكبار في طاقمه - مستشار الأمن القومي، وزيرا الخارجية والدفاع، والسفير في الأمم المتحدة - في الساحة الدبلوماسية والدولية والإقليمية (وخصوصاً إزاء مصر)، بهدف الدفع قدماً بخطوات تؤدي إلى وقف التصعيد ووقف إطلاق النار.
فحصُ سلوك الإدارة خلال الأيام الـ 11 من عملية "حارس الأسوار" يُظهر أنه كلما استمر القتال كلما تحول التأييد الواضح لإسرائيل ومسعى تأمين حرية عمل لها لتحقيق أهدافها العسكرية إلى مقاربة أكثر "توازناً" في الرسائل، وصولاً إلى المطالبة القاطعة بوقف القتال والتوصل إلى وقف إطلاق النار".
صبر الولايات المتحدة أصبح أقل
في الأيام الأولى لعملية "حارس الأسوار" وفي بيانات وسائل الإعلام نُشرت بصورة خاصة أحاديث بايدن مع نتنياهو وأحاديث الموظفين الرفيعي المستوى في الإدارة مع نظرائهم في إسرائيل، وشددت الإدارة في الأساس على حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها في وجه إطلاق الصواريخ عليها من "حماس" والتنظيمات الأُخرى في غزة.
في المقابل منعت الولايات المتحدة خلال المواجهات عدة مرات صدور بيان من مجلس الأمن واقتراحاً فرنسياً دعا إلى وقف إطلاق نار فوري. وأوضحت الإدارة أن وجود مساع من وراء الكواليس لإعادة الهدوء أكثر نجاعة من بيانات الأمم المتحدة.
مع ذلك، منذ اليوم الثالث للقتال برز تغيير في الخط الأميركي. في حديث بين بايدن ونتنياهو في 15 أيار أعرب الرئيس الأميركي عن قلقه من العنف في المدن المختلطة في إسرائيل، ومن التصعيد في الضفة الغربية، وبالنسبة إلى أمن الصحافيين (في أعقاب مهاجمة إسرائيل مبنى وسائل الإعلام الأجنبية في غزة). بعد يومين على ذلك، وإلى جانب تأييد حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، بحث بايدن مع رئيس الحكومة الإسرائيلية "تقدُّم المعركة الإسرائيلية ضد "حماس" وأعرب لأول مرة عن "تأييده لوقف إطلاق النار". بعد مرور يومين على ذلك جرى نشر أهم ما جاء في حديث بين الزعيمين لم يجرِ فيه ذكر حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها؛ بل تركز الحديث على التقدم الإسرائيلي في ضرب قدرات التنظيمات المسلحة، وأعرب الرئيس عن توقعه "الحد من التصعيد" فوراً على طريق وقف إطلاق النار.
في هذه الأثناء، في 16 أيار ألقت السفيرة الأميركية في الأمم المتحدة ليندا توماس - غرينفيلد، خطاباً تفصيلياً برز فيه خط متوازن أكثر فيما يتعلق بالجانبين الإسرائيلي والفلسطيني. لم تذكر السفيرة حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، مشددةً على العدد المرتفع للقتلى نتيجة إطلاق الصواريخ والهجمات الجوية؛ ودعت الطرفين إلى ضمان حماية المدنيين واحترام القانون الإنساني الدولي؛ ولم تصف "حماس" والتنظيمات الأُخرى في غزة بأنها تنظيمات إرهابية؛ ودعت كل الأطراف في داخل إسرائيل إلى الامتناع من التحريض والهجمات العنيفة وعمليات الإرهاب والإخلاء، بما فيها في القدس الشرقية، وهدم منازل، وبناء مستوطنات شرقي خط1967.
مَن يقف وراء تغير التوجه في الولايات المتحدة؟
هناك 3 عوامل مركزية وجّهت وأثّرت في سياسة بايدن إزاء التصعيد في غزة. الأول، دعم إسرائيل وضمان أمنها والحاجة الاستراتيجية إلى خروجها من المواجهات منتصرة في مواجهة أطراف المحور الراديكالي في الشرق الأوسط. العامل الثاني يتعلق بالتكلفة والفائدة من استمرار القتال في غزة على خلفية تصاعد المسّ بمواطنين عزل وإمكان امتداد الأزمة إلى ساحات أُخرى، وجرّ الولايات المتحدة إلى المنطقة، بما يتعارض مع سلّم أولوياتها الاستراتيجي. العامل الثالث هو الضغط الذي مورس على بايدن من طرف الحزب الديمقراطي والكونغرس.
العاملان الأخيران هما اللذان أديا إلى تغيّر سياسة الإدارة الأميركية.
القتال في غزة - كلما تقدم القتال كلما اتضح أن الإدارة الأميركية لم تفهم ما هي استراتيجية إسرائيل والأهداف التي تريد تحقيقها. وتحدثت تقارير عن بلورة فهم لدى الإدارة في أن الإنجازات العسكرية للجيش قد استُنفدت، وأن بايدن أوضح لنتنياهو أن استمرار المواجهات يمكن أن يؤدي إلى تعقيدات. هذا كان تقدير هيئة الأركان المشتركة في البنتاغون وقد حذّر رئيس القيادات الجنرال مارك ميلي علناً من أن استمرار القتال يمكن أن يزيد احتمال زعزعة الاستقرار في المنطقة.
الحزب الديمقراطي - رفضُ بايدن الدعوة فوراً إلى وقف إطلاق النار وضعه في مواجهة مع الجناح التقدمي من حزبه. في ذروة القتال أصدر أكثر من 29 سيناتور من أصل 50 بياناً دعا إلى وقف إطلاق النار، بخلاف موقف إسرائيل. وخلال المعركة قدم ممثلو الجناح اليساري في الحزب قراراً هدفه منع صفقة سلاح دقيق لإسرائيل (تقدَّر بـ 735 مليون دولار)، وكرروا مطالبتهم باشتراط تقديم المساعدة لإسرائيل بوقف فوري لإطلاق النار...
نظرة إلى الأمام ودلالات بالنسبة إلى إسرائيل
المعركة في غزة جسدت حاجة إسرائيل العميقة إلى دعم أميركي وتنسيق كبير مع الإدارة الأميركية بمواجهة مجمل التحديات الاستراتيجية التي تواجهها. المواجهة غير المفيدة مع بايدن بشأن العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران، والتي ظهرت خلال زيارة وزير الخارجية الأميركي إلى البلد بعد انتهاء القتال، يمكن أن تلقي بظلالها على مجمل العلاقات بين الدولتين، وأن تمسّ بقدرة إسرائيل على الحصول على مساعدة الولايات المتحدة، وعلى الدعم والضمانات المطلوبة في مختلف الساحات.
لقد أجبر القتال في غزة إدارة بايدن على توظيف اهتمام كبير في الساحة الفلسطينية بينما كان من الواضح أنها ترغب في تقليص اهتمامها بهذه المسألة. وذلك في ظل إدراكها عدم وجود فرص لإعادة تحريك العملية السياسية من جديد، والأهم من ذلك كجزء من سياستها التي تسعى لتقليص تدخّلها في الشرق الأوسط والتوجه نحو آسيا والمواجهة التاريخية، في نظرها، للتحدي الذي تمثله الصين.
ومن المعقول أن تؤدي الأحداث إلى زيادة التدخل الأميركي في الساحة الفلسطينية، ولو بهدف المحافظة على التوازن الأمني والاستقرار في المنطقة، وعدم خروج الأحداث عن السيطرة، وإبعاد الولايات المتحدة عن سلّم أولوياتها الاستراتيجي.
يبدو أن الدور الذي أدته مصر ووصفته الإدارة بـ "المهم"، سيعزز نهج بايدن نحو سياسة واقعية لا تضع مسألة الديمقراطية وحقوق الإنسان فوق كل شيء، وذلك كسبيل صحيح لتعامُل الولايات المتحدة مع حلفائها في الشرق الأوسط.
أظهرت الأحداث في غزة بوضوح نهجاً مثيراً للقلق بشأن كل ما له علاقة بمكانة إسرائيل في الولايات المتحدة. لقد تحولت إسرائيل إلى المشكلة الخارجية الأساسية التي تقسم الحزب الديمقراطي، وكموضوع خلاف مركزي بين المعسكرات في السياسة الأميركية، الأمر الذي يضر كثيراً بمكانتها كموضوع إجماع يتخطى الأحزاب، وأحد الأرصدة التقليدية المركزية في الولايات المتحدة.
في النهاية أثبت التصعيد في غزة أن قدرة الخطوات العسكرية لإسرائيل على تحقيق إنجازات، وكذلك حجم سيطرتها على الأحداث، مرتبط بالتوقيت الأميركي والوقت الذي تكون الإدارة الأميركية مستعدة لإعطائه لإسرائيل لاستنفاد أهدافها العسكرية والسياسية.
المصدر: معهد السياسات والاستراتيجيا في مركز هرتسليا
الكاتب: غرفة التحرير