على الرغم من عدم وجود نتائج لمبادراته السابقة عندما كان وزيرًا للخارجية الفرنسية، يصرّ جان ايف لودريان دخول المطبخ اللبناني المتعثر لانتخاب رئيس جمهورية للبلاد بعد شغور دام أكثر من 7 أشهر. بالنسبة للبنانيين، لودريان هو الرجل الذي لم يفعل شيئًا في المحادثات التي قادتها فرنسا بعد انفجار مرفأ بيروت، وبالنسبة للدبلوماسية الفرنسية، فهو الرجل الأكثر انخراطًا في زواريب السياسة اللبنانية، وكما قال أحد مستشاري ماكرون، فإنه "يتمتع بخبرة قوية في إدارة الأزمات". وتمّ تعيينه "لتسهيل حلّ توافقي وفعال" للمأزق السياسي في البلاد.
في أحدث مناورة بين الأحزاب اللبنانية السياسية، رشحت أكبر الأحزاب المسيحية وكتل المعارضة في البلاد جهاد أزعور، وهو مسؤول في صندوق النقد الدولي ووزير المالية السابق. وفي جلسة للبرلمان عقدت في 14 حزيران 2023، فشل أزعور في الحصول على 65 صوتًا اللازمة للانتقال إلى جولة ثانية. وهو يواجه سليمان فرنجية، مرشح الثنائي الوطني حركة أمل وحزب الله وحلفائهم والمقرب من الرئيس السوري بشار الأسد.
زيارة لودريان التي قُررت بعد تلك الجلسة، وصفتها الصحف الفرنسية واللبنانية بأنها مهمة "شبه المستحيلة"، في حين كشفت مصادر مطلعة عن أن لودريان لن يأتِ حاملًا للحلّ، لكنه جاء في جولة استكشافية لمعرفة الخيارات المرشحة ومدى تمسك الأطراف بها، ليعود لاحقًا بخطة من الممكن أن تفيد بحلّ. لكن على الرغم من ذلك، فإن نجاح "الأم الحنون" للمسيحيين والتي غابت فترة طويلة عن تفاصيل أبنائها، تمّ تحذيرها أنه حتى "أفضل الصيغ لن تكون كافية". خاصة بعدما تدهورت صورة ماكرون بشكل كبير لدى شرائح من المسيحيين بعد فشله في المبادرات السابقة قبل ثلاث سنوات، وتدهورت أكثر بعدما بدا أن فرنسا تدعم سليمان فرنجية، واستضافته في باريس في أبريل الماضي وطرحته كمرشح تسوية. وقال مصدر دبلوماسي فرنسي لصحيفة لوموند الفرنسية إن لودريان لن يدفع باتجاه انتخاب أي مرشح خلال زيارته لبيروت.
بالطبع ليس الفرنسيون وحدهم "معنيين" بالملف اللبناني. في فبراير شباط الماضي، استضافت باريس ممثلين من الولايات المتحدة والسعودية ومصر وقطر لمناقشة الأزمة السياسية والاقتصادية في الدولة الصغيرة الواقعة على البحر المتوسط. لكن لم يصدر أي بيان ختامي بعد الاجتماع الخماسي.
وقبل أسبوع من زيارة لودريان، استضاف ماكرون ولي عهد السعودي محمد بن سلمان، وكان لبنان على جدول الأعمال. ودعا الزعيمان إلى "إنهاء سريع للفراغ السياسي المؤسسي في لبنان"، كما قالت الرئاسة الفرنسية بعد الاجتماع يوم الجمعة.
لم تعلن السعودية، وهي الحليف التقليدي للأحزاب السنية في لبنان، ولم تصرّح علنًا عن المرشح الرئاسي المفضل. وكان السفير السعودي في بيروت، وليد البخاري، قال الشهر الماضي إن الملف الرئاسي شأن داخلي يجب على اللبنانيين أنفسهم حله، مضيفاً: "السعودية لا تضع حق النقض على أي مرشح رئاسي، وترحب بالاتفاق بين اللبنانيين على انتخاب رئيس جديد". لكن ليس من المستبعد أن يكون رفع الفيتو عن فرنجية هو مجرد تصريحات إعلامية للعلن، خاصة أن القرار السعودي في لبنان ليس منفصلًا عن القرار الأمريكي، إلا أنّ السعودية لا تريد في هذا المرحلة استفزاز إيران.
من الواضح أن خيار جهاد أزعور قد سقط في تلك الجلسة التي لم تسفر عن انتخاب الرئيس. وعلى الرغم من أن أزعور قد حصل على أصوات 59 نائبًا في مقابل 51 لفرنجية، إلا أن التمثيل الشعبي للنواب الذين صوتوا لفرنجية هو أكبر بكثير. لكن ليس هذا هو سبب سقوطه. قطر التي تعتبر فاعلًا سياسيًا في لبنان تدعم ترشيح قائد الجيش جوزيف عون، وهو مرشح الأمريكيين أولًا. دخل الأمريكي على خط مهمة لودريان بكلمة مسجلة من دوروثي شيا، السفيرة التي انتهت مهمتها في لبنان، قالت شيا: البيان الاميركي - السعودي - الفرنسي (أيلول 2022) تضمن مواصفات الرئيس: رئيس غير فاسد، يمكنه توحيد الشعب، ويعمل مع الجهات الفاعلة الاقليمية والدولية لتجاوز الازمة، وتشكيل حكومة قادرة على تطبيق الاصلاحات ومعالجة الازمة ومواكبة الاستحقاقات. وسيجتمع لودريان مع سفراء دول "خماسية باريس" (أميركا، فرنسا، السعودية، مصر، قطر) بدون شيا، لكنّ شياطينها ستكون حاضرة بالطبع.
وفي ظلّ عدم وضوح حلول لأي طرف من خماسية باريس، من المتوقع في هذا الاجتماع أن تتفق الأطراف على فكرة دعوة الأطراف اللبنانية دون استثناء إلى طاولة حوار أصبح شبه محسومًا عقدها في الرياض حسب ما تتناقله المصادر في بيروت، وهم يؤكدون أن الرياض جاهزة لاستقبال ممثلي حزب الله لديها، وهو الانعكاس الطبيعي لعودة العلاقات بين السعودية وإيران.
الكاتب: زينب عقيل