ليس بالضرورة أن يكون من أطلق الشرارة الأولى هو المنتصر في تشكيل المشهد النهائي. قائد قوات الدعم السريع المعروف بحميدتي، عرف أنه سيتمّ تقليم أظافر طموحاته لدى خطوة الدمج مع الجيش، فقام بالتحرّك كخطوة استباقية، على قاعدة إن لم تكن لي فإنها أيضًا ليست لك. وعلى الرغم من أن موازين القوة العسكرية تميل لمصلحة الجيش، إلا أنّ ذلك لا يعني أن الجيش سيتمكّن من تفكيك قوات حميدتي، يمكن القول إنّ أقرب السيناريوهات للواقع، أن تتحوّل قوات الدعم السريع إلى ميليشيا متمردة، أو بالأحرى أن تعود على ما كانت عليه كميليشيا. وتعود السودان إلى حالة عدم الاستقرار والاستنزاف السابقة، وهذا من أسوأ السيناريوهات أيضًا.
وكما كل الدول في العالم الثالث الغنية بالموارد وذات الموقع الاستراتيجي، يتنافس على السودان مجموعة من الدول باعتبارها منطقة نفوذ يمكن من خلالها التحكّم بقضايا إقليمية، خاصة أن السودان لديها ثروات زراعية، ومعدنية ونفطية، بالإضافة إلى موانئها على البحر الأحمر عليها عيون الجميع. أما سياسيًا، تدعم السعودية والولايات المتحدة قائد الجيش ورئيس المجلس الانتقالي للبلاد، في حين تدعم الإمارات وروسيا قوات الدعم السريع، في محاولة لتقاسم الأذرع العسكرية هناك.
السعودية والإمارات
تملك السودان أراضٍ زراعية يمكن أن تحقق الأمن الغذائي للدول العربية كاملة. اشترت السعودية أراضٍ منها بهدف تأمين أمنها الغذائي، في حين تستحوذ الإمارات على 58% من الاستثمارات الزراعية لدول التعاون في السودان.
إلى ذلك، فإنّ كلمة السرّ في العلاقة الخاصة التي تجمع حميدتي بالإمارات عبر مستشار الأمن القومي الإماراتي هي الذهب، حيث كشف تقرير نشرته منظمة جلوبال ويتنس عام 2019، أن قوات الدعم السريع التي يسيطر عليها حميدتي، تُسيطر على منجم جبل عامر، إضافة إلى ثلاثة مناجم أخرى في أجزاء متفرقة من البلاد، وهذا جعل حميدتي وقواته طرفًا رئيسيًا في صناعة تعدين الذهب. وهي تُمثل جزءا كبيرًا من صادرات السودان إلى الإمارات. كما يُشير تحليل مجلس الأمن الدولي إلى أنه خلال الفترة من 2010 إلى 2014، هُرب من السودان ما لا يقل عن 96.885 طنًا من الذهب السوداني إلى الإمارات العربية المتحدة.
ويبدو لافتًا توجيه أصابع الاتهام للدور الإماراتي في تأجيج الوضع الأمني في الخرطوم، وقبلها تعقيد الأزمة السياسي في البلاد.
مصر وأثيوبيا
أما مصر، والتي تعتبر السودان عمقها الاستراتيجي، فيبدو أنها تنأى بنفسها عن الصراع على الرغم من أنّ خطف جنودها في مطار مرَوَي كان بمثابة استدعاء لها للتدخل في هذا الصراع. إلا أن الرئيس عبد الفتاح السيسي، كان يرتدي بذته المدنية، عندما ترأس اجتماعًا للمجلس الأعلى للقوات المسلحة، للمناقشة في أزمة خطف الجنود، والصراع في السودان. وهذا يعني أنه لا ينوي التصعيد، متمنيًا "أن نستعيد هذه القوات في أسرع وقت ممكن".
في البداية بدت مصر حيادية، يحكى أن الأمريكي كان يمنع من التدخل، إلا أن مصر التي قامت بإعداد وتدريب عبد الفتاح البرهان عسكريًا، وتملك الولاء المطلق للرجل، ولديها نفوذ داخل الجيش السوداني. بالإضافة إلى حضور استخباراتي واسع في الخرطوم، وصل إلى حدّ أنّ "المصريين هم من يتخذون القرارات"، بحسب أحد المسؤولين في حكومة حمدوك قبل أن يطيح به البرهان بعد الانقلاب. دخلت مصر الصراع لتحرير الجنود، قامت المقاتلات المصرية بضرب مخازن الدعم السريع، وقد نفذت الغارات بالتزامن مع جسر جوي يدعم حميدتي من ليبيا بمساعدة حفتر والإمارات.
كما أنّ مصر تعتمد على مياه نهر النيل بنسبة 97%، وبدون السودان كحليف وشريك سياسي لن تتمكن من تحصيل حقوقها من أثيوبيا في مياه النيل.
بالنسبة لأثيوبيا فإن النزاع على الحدود يرجع إلى أكثر من مائة عام، وتتكرر الاشتباكات أو المناوشات بين البلدين على الرغم من أن هناك نص قانوني واعتراف اثيوبي بأحقية السودان في الجزء المتنازع عليه، لكن ثمة تداخل في المصالح الاقتصادية والاجتماعية في هذه المنطقة الحدودية ما يجعل اثيوبيا تتذرع بالأضرار الاقتصادية والاجتماعية الناتجة عن الانسحاب الاثيوبي من هذه المنطقة. دخلت اثيوبيا في الحرب السودانية وارسلت جنود الى الفشقة الصغرى، ما استدعى ردّ الجيش السوداني الذي قام بضرب القوات الأثيوبية.
الكيان الإسرائيلي المؤقت
لدى إسرائيل حركات انفصالية في جنوب السودان تمكنت من السيطرة عليها والتغلغل بها نتيجة حالة الفقر والعزلة التي تعيشها المنطقة، وقد استثمر الكيان المؤقت حالة التنافر والصراع مع المركز، من أجل تعميق حدة الصراع وذلك منذ خمسينيات القرن الماضي، حيث أقنعت نخبة من المفكرين بأن صراعهم هو صراع مصيري بين شمال عربي مسلم محتلّ، وجنوب زنجي مسيحي. إذ تسعى إسرائيل إلى تلافي نقاط الضعف الاستراتيجي المتمثلة بإحاطتها بطوق عربي محكم، والسيطرة على السودان بصورة مباشرة أو غير مباشرة والتحكم بموارده الطبيعية وزيادة الضغط على مصر وحرمانها من عمق استراتيجي هام، كما أن عدم الاستقرار الأمني في السودان سيخلق بؤرة من بؤر التوتر على حدود مصر الجنوبية، فضلا عن ذلك تسعى إسرائيل إلى ابتزاز مصر مائيًاً عبر التحكم بمياه نهر النيل، وإقامة شبكة من السدود في إثيوبيا وتأليب دول المنبع الواقعة على بحيرة فيكتوريا ضد مصر.
في الانقلاب الأول عام 2021، زار أعضاء الموساد، سرا القادة العسكريين السودانيين بعد أيام من الانقلاب، التقى الوفد مع حميدتي الذي شارك في الانقلاب على عمر البشير، وكان حميدتي أيضا جزءًا من وفد عسكري سوداني زار إسرائيل قبل أسابيع من الانقلاب. وفي علامة على تنامي نفوذ إسرائيل، حث بلينكن وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس حينها على استخدام نفوذ الحكومة على الحكام العسكريين في السودان لإنهاء الانقلاب واستعادة القيادة المدنية. واليوم كشفت صحيفة يديعوت أحرونوت أن حكومة الاحتلال أجرت اتصالات مع أطراف الصراع في السودان من أجل احتواء التوتر ووقف القتال، وكانت الولايات المتحدة قد طلبت صراحة من اسرائيل بالتدخل لوقف النزاع بين الأطراف بحسب المعلن، يبدو أن الولايات المتحدة تدرك النفوذ الاسرائيلي في السودان، وعلى هذا تعطي اسرائيل دورًا عمليًا كان يتوقع العالم أن تلعبه هي كما في أغلب صراعات الدول النامية.
موقع اكسيوس كان قد كشف عن سعي حميدتي لإنشاء علاقة مستقلة مع الإسرائيليين من أجل تعزيز أجندته السياسية المحلية في السودان في وقت سابق خلال رئاسة حمدوك للمجلس الانتقالي.
روسيا
في السودان نفوذ روسي رسمي وغير رسمي. بالإضافة إلى مشروع قاعدة عسكرية روسية في ميناء بورتسودان يسعى إليها حميدتي بصفته نائب رئيس البلاد، ثمة مشاريع للزراعة والتعدين والتصنيع والنفط والغاز الرسمية بين الدولتين. أما على المستوى الآخر، قام حميدتي بتوظيف قوات فاغنر التي تستخرج الذهب وتحمي المناجم وتصدره إلى الإمارات، وفي المقابل تدرب فاغنر الميليشيات التي أصبح لها نفوذًا كبيرًا عليها.
الصين
بالطبع لا بدّ للصين من بصمة. الصين هي من أكبر المستثمرين الأجانب في السودان، لطالما كانت السياسة الخارجية للصين هي عدم التدخل السياسي، إذ حافظت على علاقات مع عمر البشير وبعده مع الحكام العسكريين الحاليين، حتى في الوقت الذي فرضت فيه الدول الغربية عقوبات ومنعت المساعدات، استمرت الصين في استثماراتها حيث تمتلك مؤسسة البترول الوطنية الصينية المملوكة للدولة أصولا نفطية في السودان، بما في ذلك حصة رئيسية في مصفاة رئيسية في العاصمة الخرطوم، وحصة في خط أنابيب نفط ينقل الخام من جنوب السودان المجاور. وتدعم الصين إعادة تأهيل شبكة السكك الحديدية السودانية بقيمة 640 مليون دولار، حيث تقوم شركة CRRC Ziyang بتزويد البلاد بعربات قطار الشحن.
وفي ظلّ التوجّه الجديد للسياسة الخارجية للصين، لا بدّ من الإشارة لها من بين الدول التي تتشارك هذه الوليمة، على الرغم من عدم وجود اتصال مباشر بين استثماراتها وبين ما يحصل على الأرض.
الولايات المتحدة
وصلت العلاقات بين الولايات المتحدة والسودان إلى أدنى مستوياتها في أوائل تسعينيات القرن الماضي، عندما استضافت الخرطوم تنظيم القاعدة وزعيمه أسامة بن لادن. في أعقاب هجمات أيلول 1990، سعى الحاكم العسكري السوداني آنذاك، عمر البشير، خوفا من هجوم أمريكي محتمل، إلى إعادة بناء العلاقة، وعرض توسيع التعاون الاستخباراتي في الحرب التي تقودها الولايات المتحدة على الإرهاب.
وبعد عقود من التوتر، وافقت واشنطن على تطبيع العلاقات والبدء في تبادل السفراء مع حكومة ما بعد الثورة الجديدة في أواخر عام 2019. ولكن بعد ما يقرب من عامين، لم ترسل الولايات المتحدة سفيرا بعد، لكنها تمكنت من إيجاد طريقة للتنسيق بين الشبكة الواسعة من اللاعبين الدبلوماسيين والتنمويين والأمنيين ذوي الأجندات المختلفة والشائكة، وخصوصًا من حلفائها. مجلة فورين بوليسي تقول إنه على الرغم من أن ثمة من يلعب أدوارًا أكبر بكثير من الولايات المتحدة في السودان، إلا أن الولايات المتحدة تتمتع بنفوذ وقوة كافيين للتحقق من طموحات حلفائها.
على الرغم من وقوع هجوم على موقع دبلوماسي أمريكي خلال الاشتباكات الجارية، والذي كان من الممكن أن يستدعي الولايات المتحدة للتدخل على الأرض في الصراع، إلا أن واشنطن حتى الآن اكتفت بتصريح وزير الخارجية أنتوني بلينكن اكتفى بدعوته إلى قف فوري لإطلاق النار للسماح للأطراف المتحاربة بالعودة إلى المفاوضات.
المشهد الأخير
وبانتظار المشهد الأخير، ليس معروفًا بعد من سيدير المفاوضات بين جميع هذه الأطراف، وكيف سيتم إدارتها، وكم ستحتاج من الوقت، وعلى ماذا ستتفق، وكيف سيكون الحال في السودان حينها، وأي دور تلعبه إسرائيل في هذا الصراع خلف شواطئ البحر الأحمر؟.
الكاتب: زينب عقيل