"حميتّي حمايتي" .. الكليشية الذي كان يحلوا للرئيس السوداني السابق عمر البشير ترديده أمام رجال النظام؛ متبخترًا أنه أمّن ظهره ضد أي محاولة انقلاب، من خلال اللعب على التوازنات بين أجهزة الأمن والجيش ومليشيا الجنجويد الذي يتزعمها حميدتي. نفس المليشيا التي كان لها الدور الأكبر في الإطاحة بـعمر البشير ثم القضاء على بقايا نظامه في الحرب الأهلية السودانية التي اشتعلت نيسان/ابريل ٢٠٢٣ بين الجنجويد وميلشياتها وبين الجيش السوداني ومليشيات حليفة أيضا ولم تنته حتى الآن.
قد يظن النظام المصري أنه أكثر دهاءا وأوسع حيلة من جاره السوداني عندما بدأ في الاعتماد على فكرة "القوات الرديفة"، وأن التاريخ قد يستحي أن يكرر في مصر ما كان في السودان، عندها قام بالإفراج بالعفو الصحي والرئاسي عن مسجونين مدانين بجرائم مخلّة بالشرف مثل (صبري نخنوخ) أو (إبراهيم العرجاني) ليصعد نجمهما في سنوات قليلة إلى أعلى مراتب النفوذ والسلطة والثروة في الدولة الجديدة،
"القوات الرديفة" أو "القوات الشعبية" هي عنصر هام لحفظ الامن في البلاد وعنصر هام من عناصر التحرر والسيادة في أوقات الأزمات، وسبق للجيش المصري الاعتماد على "قوات مقاومة شعبية" في سيناء[1] إبان حرب الاستنزاف مع العدو الصهيوني بعد نكسة ١٩٦٧، والتي كانت فيها هذه القوات تقوم بكل عملياتها تحت اشراف مباشر من المخابرات الحربية المصرية. لكن بعد معاهدة كامب ديفيد وبعد أن بلغ التنسيق الأمني ذروته بين النظام المصري وحكومة الكيان، ومع وجود قوات أميركية ودولية في سيناء ضمن بعثة مراقبة معاهدة كامب ديفيد، وصولًا إلى دعوة الرئيس السيسي إلى التطبيع الشعبي مع "إسرائيل" فيما أسماه "السلام الدافئ"، جميع هذا يضع علامات استفهام حول غرض وأهداف رعاية الدولة المصرية لإنشاء "قوات رديفة" شبه عسكرية في سيناء والمسماة: "فرسان الهيثم".
لا تعمل قوات "فرسان الهيثم" تحت إمرة المخابرات الحربية كما كان الحال سابقا، بل تحت كيان/تنظيم سياسي/اجتماعي يسمى "اتحاد قبائل سيناء" والذي يضم فضلا عن التنظيمات المسلحة مجموعة من شركات المقاولات والتجارة والسفريات المختصة في العمل ضمن شبه جزيرة سيناء وداخل غزة وفي الاعمال التي تتطلب تنسيق مع الجانب "الإسرائيلي" مثل عبور المسافرين من غزة إلى مصر. وفيما يعمل "اتحاد قبائل سيناء" كواجهة للنظام المصري من خلال شركة "هلا" التابعة له لفرض إتاوات باهظة بلغت ١٠ آلاف دولار لخروج أي فلسطيني من معبر رفح، فإن قوات "فرسان الهيثم"، كذلك، قد تؤدي دور "القفازات" للتعامل العسكري مع أي "مستجدات" من الجانب الفلسطيني، مثل التصدي لعبور غير شرعي من الفلسطينيين كما جاء في تصريح على لسان أحد شيوخ القبائل في "الاتحاد".
تتسلح "فرسان الهيثم" بنفس نمط تسليح تنظيمات حرب العصابات (الأسلحة الخفيفة والمتوسطة + سيارات الدفع الرباعي المموهة)، وما يلفت الانتباه أنه بالرغم من العنوان الجامع إلا أن أغلب أعضاء اتحاد قبائل سيناء هم من قبيلة الترابين الممتدة من صحراء سيناء إلى النقب، والمشهورة بامتهان معظم أبناءها تهريب البشر (الأفارقة) إلى "إسرائيل". فيما نزعت الدولة المصرية السلاح من يد قبيلتي السواركة والرميلات[2].
على الجانب الآخر من وادي النيل، تقوم الدائرة المقربة من الرئيس المصري كذلك بعمل إعادة ترتيب للمشهد الأمني في الجمهورية الجديدة، فصدر قرار من الرئيس بمنح ضباط الجيش المصري الضبطية القضائية في الجرائم المدنية داخل المجتمع، بالتزامن مع ذلك بيعت أحد أكبر شركات الأمن المصرية "فالكون" إلى (صبري نخنوخ)، وهي الشركة التي تتمتع بحجم أعمال استثنائي في حماية المنشئات الحساسة والبنوك والبعثات الدبلوماسية وبعض الصالات في مطار القاهرة.
(صبري نخنوخ) زعيم تنظيم عصابي مدان في عدة جرائم تتعلق بالبلجة والاتجار بالمخدرات ومحكوم بالسجن لمدة ٢٠ عام، حتى قام الرئيس السيسي بالإفراج عنه بعفو "صحي"، وليس بعيدًا أن يكون تفكير الدوائر المقربة من الرئيس في الاستفادة من (نخنوخ) على نفس منوال التجربة مع (العرجاني)، كواجهة لتنفيذ الأعمال غير المشروعة مثل تهريب وتجارة الذهب خارج السوق الرسمي، ومثلما كان اختياري (العرجاني) من أقلية عرقية يضمن النظام ألا تتمرد عليه لأن صعود نجمها يعتمد بالدرجة الأولى على المشروعية التي يمنحها النظام لها، كذلك فإن اختيار (صبري نخنوخ) كمسيحي "متديّن" جعل منه الحليف المناسب والطيّع للوجود في المساحة الرمادية بين ما هو مشروع وقانوني وما هو "استثنائي".
بالمبدأ العام قد يكون مفهومًا توظيف "القوات الرديفة/الشعبية" (أو المليشيات) في بعض الحالات:
ولكن بالنظر إلى الحالة المصرية فإن أي واحد هذه المقومات غير موجود، فلا يوجد فائض مالي يمكّن الدولة من استمرار الحفاظ على ولاء هذه المليشيات، ولا يوجد أجهزة أمنية عسكرية تتفوّق على هذه المليشيات في مناطق نفوذها (سيناء)، ولا توجد قضية وطنية جامعة، ولا مبادئ عقائدية/ايديولوجية تجمع الدولة مع هذه القوات الشعبية/المليشيا، وبالنتيجة لا يمكن تناول هذه الظاهرة الا كواحدة من علامات تحلل الدولة المصرية، حيث تكون قيادتها السياسية غير قادرة على الحفاظ على مصالح النخبة الحاكمة فتكون مضطرة لخوض مغامرة/مقامرة اللعب على تسليح وشرعنة وجود قوى داخلية رديف ومن ثم تلعب على التوازنات (وأحيانًا المنافسات) فيما بينها، فيما يسمى في علوم الاجتماع (الدولة متعددة الطبقات).
بناء دولة داخل الدولة او ما يسمى بالدولة متعددة الطبقات يشبه عملية بناء الحصون داخل الحصون التي كانت معروفة سابقة عن تخطيط حصون اليهود في الجزيرة العربية مثل حصون خيبر، هي بالأساس نتيجة للحسابات المادية التي تتوقع فيها السلطة السياسية الخسارة فتبدأ بتنفيذ استراتيجية (الانسحاب إلى الداخل) وبناء المتاريس الداخلية للحفاظ على وجودها، وفي مصر تبدو مظاهر الانسحاب الى الداخل في عدة ابعاد:
يمكن للمراقب ان يستشف ان جميع هذه التحركات تأتي بدافع الهروب من هاجس تكرار ثورة شعبية جديدة على نمط ٢٥ يناير، واستيلاء نمط الزبائنية السياسية وتسليع القيم لدى الدولة المصرية الجديدة.
قد تتعدد التفسيرات حول أسباب توظيف النظام المصري المليشيات الجديدة للتعامل مع الوضع داخل غزة، البعض ذهب إلى أنه من قبيل الانسحاب الى الداخل، او محاولة للالتفاف حول بنود معاهدة كامب ديفيد، او أنها تستخدم كقفازات لارتكاب اعمال لا أخلاقية ضد الفلسطينيين (مثل إتاوات الخروج من القطاع) او ببساطة تماشيًا مع موضة توظيف الحكومات للوكلاء غير الدولتيين (Non-State Actors). وأيا كان التفسير فجميعها مؤشرات تؤكد على تحول الذهنية العامة الحاكمة على النظام المصري نحو المادية البحتة وهي التي تحدد في الوقت الحالي مواقفه وسلوكه تجاه الاحتمالات والديناميات المختلفة الناتجة عن "طوفان الأقصى".
وعليه، فإن فكرة "توظيف الأزمة" ومحاولة استجرار الاستفادة المادية بحدها الأقصى هي الحاكمة على تفكير النظام المصري، سيما مع تفاقم الازمات المالية التي تعصف بالبلاد.
الكاتب: شادي علي