على مدى ثلاثة أرباع القرن، كان المشهد كالتالي: الأمريكيون هم الفاعلون المركزيون في سياسات المنطقة، والصينيون يلعبون دورًا اقتصاديًا مع تجنّب الدخول في السياسة وتجنّب مواجهة الأمريكي حتى في الأسواق التي يُفرض عليها عدم الدخول إليها، وفي لحظة تغيّر كبرى، صحى الأمريكيون على واقع أنهم ليسوا في الغرفة التي تجري فيها اتفاقات سلام فيما يسمونه الشرق الأوسط، كما أنه ليس اتفاق سلام بين السعودية والكيان المؤقت، بل هو اتفاق بين السعودية وإيران، وللمفارقة، بوساطة الصين. والإسرائيليون، الذين كانوا يغازلون السعوديين ضد عدوّهم المشترك في طهران، ويقرعون طبول الحرب سويًا، حتى قبل يومٍ واحد من الاتفاق، يتساءلون الآن: كيف اختفت الطبول؟
استهزاء أم ابتزاز للأمريكي
على الرغم من اقتناع الولايات المتحدة بإدارة بايدن بالحلّ الدبلوماسي لإدارة الموضوع النووي الإيراني، وللتعامل بشكل عام مع إيران، إلا أنها كانت المستفيد الأكبر والأول من الاضطرابات التي تخلقها السعودية في إيران. ولم يُسمع تصريحٌ أمريكيٌّ يدعو إلى التصالح بين البلدين. رحب البيت الأبيض في عهد الرئيس بايدن علنًا بإعادة العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران ولم يعرب عن قلق صريح، كما عادته، بشأن دور بكين في إعادة العلاقات بينهما. لكن في السر، أشار مساعدو بايدن إلى أنه تم إجراء الكثير من الاختراق للنفوذ الأمريكي، ووجدوا أن الاقتراحات تهزأ بالنفوذ الأمريكي في المنطقة. فهل يستهزئ السعودي بالأمريكي؟ أم أنه يستفزه فقط؟
قبل ذلك، علّقت الصحف الأمريكية مطولًا، وقارنت كثيرًا بين استقبال ولي العهد السعودي لرئيس الولايات المتحدة بايدن، واستقباله للرئيس الصيني شي. أتى بايدن إلى السعودية ليوبّخ بن سلمان على قتل خاشقجي في الصباح، وليطلب منه رفع إنتاج النفط في المساء. خرج بايدن من الرياض وقد تعوّد أن طلبات الأمريكي أوامر، إلا أنّ بن سلمان الذي تعلّم من الأمريكيين أن المصلحة فوق كل شيء، أرسل رسالته لبايدن، اعتقد المسؤولون الأمريكيون أن بن سلمان قد أنقذ الرئيس الروسي بوتين وازدرى حليفه الأمريكي، هدّد بايدن بعواقب غير محددة ولم ينفّذ منها شيئًا.
هل هي لحجز مكان في التعددية القطبية؟
التوقيت وعناصر الرسائل المضادة تلقي بظلال الشك على ادّعاء السعودية بأنها تفعل كلّ ذلك انطلاقًا من مصلحتها، خاصّة أن آل سعود لطالما تنازلوا عن مصالح السعوديين لخدمة الأمريكي تحت عناوين مثل: النفط مقابل الأمن وغيرها. وهو الأمر الذي يدفع للسؤال، هل تفعل السعودية ذلك للابتزاز فقط؟ لطالما اعتقد السعوديون أن فقدان العلاقة مع واشنطن يؤدي إلى زوال المملكة. بالنسبة للمصالح، فإن سياق القرار مهم للغاية، هل تم إلقاء هذا النرد بعدما يئست السعودية من تنفيذ الولايات المتحدة لمطالبها بأن تكون شريكًا كاملًا للولايات المتحدة وتتمتع بكل ما يتمتّع به حلفاؤها وخاصةً الكيان الإسرائيلي؟ أم أنّ السعودية تلعب اللعبة التي يلعبها العالم كله اليوم وهي لعبة التعددية القطبية؟
هل يمكن أن تكون هناك علاقة "استراتيجية" مع الولايات المتحدة بدون نفط؟
عندما تسلّلت الولايات المتحدة إلى المنطقة خلال الحرب الباردة، كان هدفها من صنع المشيخات في الخليج هو النفط، سواء للتحكم به أو لسرقته. بالنسبة لواشنطن، كانت المملكة العربية السعودية مرادفة للنفط، إلا أنّ السعودية اليوم، وبحسب رؤية 2030، تعمل على التحوّل من الاقتصاد الريعي نحو الإنتاج والاستثمارات، مع الاستمرار في الاستفادة من مكاسب النفط، التي ستستمرّ لمدة ربع قرن آخر على الأقل. إلا أنّ الأمريكيين يعرفون جيّدًا أن العالم يتّجه نحو الطاقة النظيفة، ويدركون أكثر ماذا يعني أن تمتلك السعودية مفاعلًا نوويًا - وهو على رأس مطالبها. لا يبدو من خلال الشروط التي وضعتها السعودية للتطبيع مع إسرائيل أنها زاهدة بالولايات المتحدة، إذا وافقت واشنطن على الشروط، ستصبح السعودية حليفة الولايات المتحدة الأولى برباط أوثق من رباط الدول مع حلف الناتو، وبقوة نووية ودبلوماسية وموقع جيوسياسي رفيع، وبذلك يمكن للسعودية أن تتقدم نحو الدول العظمى حتى في ظلّ الأحادية القطبية.
ما هي المفاجأة؟
هي الصين التي فاجأت الجميع بمهارة الدبلوماسية، وتعاملت مع واحدة من أكثر الخصومات استعصاءً في منطقة ملتهبة من العالم. يمكن القول إنّ الرسالة الأساسية المحسوبة على أنها مفاجأة للأمريكيين هي أن السعودية أدخلت العدو الأول للولايات المتحدة إلى منطقة نفوذ واشنطن لتقود اتفاق سلام مع عدوّها الآخر وهو إيران.
الكاتب: زينب عقيل