بعد الحلقة الأولى من "مفهوم الثورة الإسلامیة في فکر قائدها الإمام السیّد علي الخامنئي"، التي أعدّها المستشار الثقافي للجمهورية الإسلامية الإيرانية في لبنان السيد كميل باقر زاده، والتي خصّ بنشرها موقع الخنادق الإلكتروني. يتحدث السيد باقر زاده في الحلقة الـ 2 عن المبادئ الفکریة والأسس العقائدیة للثورة الإسلامیة بناءً علی آراء وأفکار الإمام الخامنئي.
وهذا نص المحاضرة:
العلاقة بین الإسلام وهذه الثورة علاقة وثیقة ومستحکمة. الإسلام هو المنشأ الرئیسي لهذه الثورة، وهو الدافع الأساسي لدی الشعب للقیام والنهوض، وهو الجوهر الأصلي والعنصر المحوري في کل الأحداث في هذه الثورة، والاعتقاد الجازم بالإسلام هو الذي یدعو هذا الشعب إلی عدم الرضا بالعیش تحت حکم الطواغیت، وإیمانه الراسخ بالمبادئ الإسلامیة هو الذي یطالبه بالحرکة نحو التغییر والتحوّل والسعي لإسقاط الأنظمة غیر الإلهية في حیاة الإنسان وبناء نظام جدید للحکم؛ نظام إلهي، وإیجاد مجتمع إسلامي للحیاة الطیّبة والعیش الکریم.
إذاً، قصة هذه الثورة ورحلتنا معها تبدأ مع "الإسلام". لکن أيُّ إسلامٍ؟! ما نفهمه من کلمات الإمام الخمیني والإمام الخامنئي أنّنا الیوم أمام نوعین من الإسلام؛ إسلامٌ محمّديٌ أصیل، وإسلامٌ أمريكي.
الثورة الإسلامية مبنیّةٌ علی أساس الفهم الصحیح للإسلام، ونابعةٌ من المعارف والمصادر الأصیلة لمعرفة حقیقة الدین الإلهي. هذه القراءة الصحیحة للإسلام هي التي تنتج الثورات. الإسلام المحمّدي الأصیل هو الذي یصنع الثوّار ویحرّك الجماهیر ویرفع الرایات ویرفض الاستسلام. أمّا الإسلام الآخر الذي یساوم الطاغوت ویقبل الذلّ ویعایش الکفر ویصبح أداةً بید المستکبرین فهو لیس إسلاماً حقیقیاً إلهیاً أصیلاً، وإنما هو صنيعة أعداء الإسلام لضرب الإسلام ولتشویه صورة الإسلام ولمنع فاعلیة الإسلام، وبتعبیر الإمام الخمیني هو الإسلام الأمریکي.
ولکي ندرك ما هي علاقة الثورة بالإسلام علینا أن نلقي نظرةً ولو إجمالیة على أهمّ المبادئ الفکریة والأسس العقائدیة في الإسلام المحمّدي الأصیل، والتي بدورها تؤثّر علی أداءنا الفردي وسلوکنا الاجتماعي. طبعاً الإمام الخامنئي في کثیر من محاضراته یشرح لنا الأصول الثورية للإسلام، لکن ربّما من أفضل المصادر للاطلاع علی آراء سماحته حول هذا الموضوع هو کتاب "مشروع الفکر الإسلامي فی القرآن". أنتم في هذه الدورة قرأتم هذا الکتاب القیّم المشتمل على سلسلة محاضرات ألقاها الإمام الخامنئي قبل سنوات من انتصار الثورة، وعرفتم أنّ سماحة السید علي الخامنئي الشاب الثلاثیني الذي کان إمام مسجد صغیر في مدینة مشهد آنذاك، کان یهدف من إلقاء تلك المحاضرات إلی تبیین الأسس الفکریة للثورة الإسلامیة أوّلاً، وتربیة الشباب المؤمن الثوري ثانیاً.
ویشهد التاریخ ویعترف العدوّ أيضاً أنّه کان موفّقاً وناجحاً جدّاً في تحقیقه لکلا الهدفین. في الوثائق الرسمية لنظام الشاه التي تمّ العثور علیها بعد انتصار الثورة هناك تقریر للسافاك (أي جهاز الاستخبارات في نظام الطاغوت) حول محاضرات مشروع الفکر الإسلامي في القرآن. ضابط الاستخبارات یقول في هذا التقریر: "یقوم السید علي الخامنئي في هذه المحاضرات بتبیین المبادئ الثورية للإسلام، والهدف غیر المباشر لهذه الجلسات هو إيجاد تنظيم من نوع آخر یحوّل الشباب إلی طلقات ناریة لا یقف بوجهها أيّ شيء". في هذه الجلسة سنشیر إلی أهمّ هذه الأصول الثورية والمبادئ الفکریة للإسلام بناءً علی رؤية سماحة القائد:
الأصل الأوّل في الإسلام المحمّدي الأصیل هو الاعتقاد بالتوحید. تعلّمنا في کتاب مشروع الفکر الإسلامي أنّ التوحید لا یعني أنّ الله واحدٌ ولیس اثنین فحسب، وإنّما یعني أنّ العبادة والطاعة منحصرة بالله، وأنّ روح التوحید رفض عبودیّة الطواغیت.
في نفس السیاق، یشرح سماحة الإمام الخامنئي في "بیان العهد المشترك" مفهوم التوحید ویقول: "الإسلام هو دين التوحيد، والتوحيد يعني تحرّر الإنسان من العبوديّة والطاعة والتسليم لأيّ شيء ولأيّ أحدٍ سوى الله، وفكّ قيود أنظمة الهيمنة البشريّة، وكسر تعويذة الخوف من القِوى الشيطانيّة والماديّة، والاتكاء على الإمكانات اللامتناهية التي استودعها الله في ذات الإنسان وطلب منه استخدامها كفريضة لا مناص منها، والثّقة بالوعد الإلهي بانتصار المُستضعفين على الظالمين والمستكبرين شريطة القيام والكفاح والاستقامة، وتقبّل المشَقّات والمخاطر التي تهدّد الإنسان في سبيل تحقيق الوعد الإلهي، وأن يرى الصِعاب [التي تعترضه] أنّها بِعَين الله، وخلاصة القول يعني أن يرى نفسه مُتعلّقًا ومتّصلًا بالمحيط الأزلي للقدرة والحكمة الإلهيتين، وأن يُسارع نحو الهدف الأسمى بأملٍ ودون تشويشٍ. في ظلّ هكذا إيمان وإدراك بيّنٍ وعميقٍ للتوحيد تتحقّق العزّة والرفعة الذي وُعد به المسلمون، ودون فهمٍ صحيح والتزام عقائديّ وعمليّ بالتوحيد فإنّ أيًّا من وعود الله للمسلمين لن يتحقق عمليًّا". هذا هو التوحید من منظار الإسلام الثوريّ الحرکيّ.
الأصل الثاني في الإسلام المحمّدي الأصیل هو الاعتقاد بالنُبوّة. في کتاب "مشروع الفکر الإسلامي في القرآن" تعلّمنا أنّ النُبوّة مرتبطة بالتوحید، وأنّ هدف الأنبیاء صناعة الإنسان الموحّد. لکنّهم یسعون نحو هذا الهدف عبر إیجاد مجتمع توحیدي ولیس عبر التربیة الفردیة للإنسان. لذا فإن بعثة الأنبیاء في الحقیقة هي ثورةٌ اجتماعیة ضدّ الطاغوت لبسط التوحید في کلّ العالم، لـ "یکونَ الدینُ کلُّه لله" و "لِیُظهرَه علی الدینِ کلِّه".
للمطالعة أکثر حول مفهوم النُبوّة في الإسلام الثوريّ المحمّدي الأصیل من منظار الإمام الخامنئي یمکنکم مراجعة خطابات سماحته بمناسبة عید المبعث النبويّ الشریف خلال السنوات الماضیة، كما وأنصحکم بقراءة کتاب "ثورة الأنبیاء في نهج البلاغة" من إصدارات "دار الثورة الإسلامیة". في هذا الکتاب یبیّن لنا سماحة القائد أنّ الثورة الإسلامیة هي تکرارٌ لتجربة النُبوّات وامتدادٌ لثورة الأنبیاء علیهم الصلاة والسلام.
أمّا الأصل الثالث من الأسس الفکریة في الإسلام المحمّدي الأصیل هو الاعتقاد بالولاية. وقد عرفنا في کتاب "مشروع الفکر الإسلامي في القرآن" أنّ الولایة لیست منفصلةً عن النُبوّة، ولو لم تکن الولایة کانت ستبقی النُبوّة ناقصة. لأنّ الأنبیاء - کما ذکرنا - هدفهم صناعة الإنسان، لكن أسلوبهم وطريقتهم لصناعة الإنسان عبارة عن إیجاد المجتمع الإسلامي. والمجتمع الإسلامي هو مجتمع تسود فیه حاکمیة الله والقوانین الإلهیة، ونظام العلاقات الاجتماعیة والاقتصادیة والسیاسیة والحقوقیة یقف الدین الإلهي وراءها كلّها. وإیجاد مجتمع بهذه المواصفات لا یمکن إلا بالولاية بالمعنی الدقیق الذي یقدّمه الإمام الخامنئي في تلك المحاضرات.
في الحقیقة، المجتمع الإسلامي هو المجتمع الولائي، والولایة علی صعید المجتمع تتحقّق عندما یکون وليّ الله بالحقّ أو ما نسمّیه بالإمام هو ملهم کلّ الطاقات والنشاطات في ذلك المجتمع، وأن یکون الإمام هو الحاکم والقطب الذي یوجّه المجتمع قانونیاً وتنفیذیاً. والإمام هو الحاکم والقائد الذي یعيّنه الله سبحانه وتعالی، وهذا التعیین إمّا أن یکون تعییناً بالإسم کما في حالة أئمة أهل البیت علیهم السلام، أو تعییناً من قبل الله بواسطة بیان الخصائص والمواصفات کما هو الحال في الوليّ الفقیه الجامع للشرائط في زمن الغیبة.
أیضاً من المبادئ الاعتقادية المهمّة في الإسلام الثوري هو تفسیره المتمایز والمختلف لمفهوم الإیمان. بناءً علی ما تعلّمناه في کتاب "مشروع الفکر الإسلامي فی القرآن" الإیمان بالمعنی الصحیح لیس مجرّد أمر قلبي، وإنّما هو ذلك الإيمان المقرون بالمسؤولیة والالتزام العملي. الإیمان هو الاعتقاد القلبي النابع من المعرفة الصحیحة والباعث للحرکة العملیّة والالتزام بالمسؤولیة.
المطلوب منّا أن نکون مؤمنین بالتوحید والنبوّة والولاية، وهذا یعني أن نکون ملتزمین بهذه العقیدة في سلوکنا الفردي والاجتماعي. أن تکون مؤمناً موحّداً یعني أن لا تعبد أحداً إلا الله وأن لا تطیع أحداً إلا الله والولي المنصوب من قبله، وأن تکافح کل أنواع الطواغیت في حیاة الإنسان. وأن تکون مؤمناً بالنبوّة یعني أن تسعی وتبذل کلّ الجهد لتحقیق هدف الأنبیاء وإیجاد المجتمع الإسلامي التوحیدي. وأن تکون مؤمناً بالولایة یعني أن تعزّز ارتباطاتك الفکرية والعملیة مع الوليّ وأن تسعى وتعمل لکي تجعل وليّ الله مقتدراً في أداء مهامّه. هذا الإیمان وهذه العقیدة وهذا الالتزام العملي هو الذي یصنع الثورة.
وفي بیان الخطوة الثانیة يقول سماحة القائد: "بدّلت ثورة الشعب الإیراني العالم ثنائيّ القطب يومذاك إلی عالمٍ ثُلاثيّ الأقطاب، ثم بسقوط الاتحاد السوفیاتيّ والدول التابعة له، وظهور أقطاب قوّة جدیدة، أضحی التقابل الثنائيّ الجدید بین الإسلام والاستکبار الظاهرة البارزة في العالم المعاصر ومحطّ اهتمام شعوب العالم... وهکذا تغیّر مسار العالم وقضّ زلزال الثورة على الفراعنة مضاجعهم، فابتدأت العداوات الشديدة، ولولا قوة الإیمان العظیمة ودوافع هذا الشعب والقيادة الربّانيّة والمؤیّدة للإمام الخمینيّ العظیم لما أمکن المقاومة حیال کلّ هذه العداوة والظلم والمؤامرات والشرّ".
إذاً بالمختصر، هذا هو دور الإسلام والإیمان والأسس العقائدية والمبادئ الفکریة القرآنیة في إیجاد الثورة الإسلامية واستمرارها. هذا الفهم العمیق والدقیق للإسلام وهذه القراءة الممیّزة للإیمان تحرّك الشعوب لإیجاد التحوّل في المجتمع نحو الإصلاح ولبناء حیاة طیّبة في الدنیا والآخرة، وهذا هو الفرق بین الإسلام المحمّدي الأصیل والإسلام الأمریکي الذي یفصل بین الدین والحیاة الاجتماعية والسیاسیة.
بتعبیر القائد في بیان العهد المشترك: "طبيعة الإسلام الأصيل هي طبيعة غنية بالجوانب الجذّابة، وتجتذب إليها القلوب النقيّة من الأغراض الفاسدة والأحقاد، وهذا هو نفسُه ما طرحه إمامنا وثورتنا في العالم مرة أخرى، وقدّماه للقلوب والأبصار الباحثة والمُفتقرة إليه. في مدرسة الثورة التي أسّسها إمامنا طُوي بساط الإسلام السفياني والمرواني؛ إسلام الطقوس والمناسك الفارغة، الإسلام المكرّس لخدمة المال والسلطة، إسلام هو أداةٌ في يد القِوى المُهيمنة وآفةُ أرواح الشعوب، وسطع نجم الإسلام القرآني والمحمّدي، إسلام العقيدة والجهاد، إسلام معاداة الظالمين ونصرة المظلومين، ومُؤسس حكومة المستضعفين".
ثمّ یقول سماحته: "جاءت الثورة الإسلامية بإسلام الكتاب والسُّنّة مكان إسلام الخرافة والبِدْعة، وبإسلام الجهاد والشهادة مكان إسلام التقاعس والقيد والذِلّة، وبإسلام التعبّد والتعقّل مكان إسلام الالتقاط والجهل، وبإسلام الدنيا والآخرة مكان إسلام حبّ الدنيا أو الرّهبانية، وبإسلام العلم والمعرفة مكان إسلام التحجّر والغفلة، وبإسلام الدين والسياسة مكان إسلام الانحلال الأخلاقي واللّامُبالاة، وبإسلام القيام والعمل مكان إسلام الذُبول والكآبة، وبإسلام الفرد والمجتمع مكان إسلام المناسك وانعدام الفائدة، وبالإسلام المُنجي للمُحْرُومين مكان إسلام هو أُلْعُوبة بأيدي أصحاب السُّلطة، وباختصار؛ جاءت بالإسلام المُحمّدي الأصيل مكان الإسلام الأمريكي".
أیضاً هناك مبادئ فکریة إسلامیة مهمّة أخری، مثل الاعتقاد باستمرار الحیاة بعد الموت والاعتقاد بمحوریّة الإنسان وتکریم الإنسان والاعتقاد بحرکة العالم نحو حاکمیة الحقّ، یشرحها الإمام الخامنئي في کتاب "العهد العالمي الجدید"، وللتعرّف علی هذه النقاط یمکنکم مراجعة هذا الکتاب القيّم من إصدارت دار الثورة الإسلاميّة.
في الحلقة القادمة من سلسلة الدروس هذه سوف نواصل البحث معکم حول مفهوم الثورة الإسلامیة وسنناقش مراحل الثورة الخمسة وأهداف الثورة وقيمها وشعاراتها بالاستفادة من کلمات قائد الثورة الإسلامیة الإمام السيد علي الخامنئي.
الكاتب: السيد كميل باقر زاده