بدأت صورة الولايات المتحدة الأميركية تتبدل في أذهان الشعوب والدول، من صورة تعكس أن أمريكا هي الدولة الأقوى في العالم إلى حقيقة أن أمريكا لم يعد يمكنها فرض إرادتها على كل الدول والشعوب. لقد هيمنت الولايات المتحدة على النظام العالمي في كافة مستوياته لعقود طويلة، ابتداءً من نهاية الحرب العالمية الثانية مروراً بنهاية الحرب الباردة وسقوط جدار برلين، ومن ثم غزوها لأفغانستان والعراق، إلا أن صورة الدولة الأقوى لم تعد كما قبل، ويمكن القول أنها بدأت تتغير تدريجياً، ومع التطورات التي حصلت منذ الحرب السورية وصولاً إلى الحرب الأوكرانية، يمكن البناء على مؤشرات كثيرة تفيد بأن هذه القوة بدأت تهتز على المستويات السياسية والعسكرية، كما على المستويات الاقتصادية والاجتماعية، وفي هذا المقال يمكن أن نشير إلى المستويات السياسية والعسكرية لتراجع القوة الأميركية في العالم، فيما نتحدث في مقال لاحق عن التراجع على المستوى الاقتصادي والاجتماعي في الداخل الأميركي.
الصعود الروسي الصيني
يشكل الصعود الصيني والروسي أحد أبرز العوامل التي بدأت تبدل صورة الدولة الأمريكية القادرة على قيادة العالم وحلّ مشكلاته، خاصة في عدم القدرة على كسر روسيا من خلال الحرب الأوكرانية. وهناك تتداخل بعض المؤشرات السياسية والعسكرية مع الصعود الصيني الروسي في مقابل التراجع الأميركي ومنها سباق التسلح لحفظ التوازن العسكري مع روسيا والصين لناحية نشر القوات وتوجيه الصناعات الدفاعية وأولويات الإنفاق، حيث نجد أن الولايات المتحدة الأميركية تنفق ما يضاهي 900 مليار دولار على الأمور التسليحية في الميزانية السنوية، في مقابل رخص الإنتاج الموجود لدي روسيا والصين وإيران وكوريا الشمالية، علماً أن هذه الدول المنافسة لواشنطن تمتلك ايضاً سلاحاً نووياً، كروسيا والصين وكوريا الشمالية.
كذلك تأتي في هذا السياق السياسات المختلفة في تحقيق الأهداف، حيث نشهد تحولاً أميركياً كبيراً نحو تحقيق الأهداف من خلال التحالفات الدولية وتخفيف العبء عن كاهل الولايات المتحدة الأميركية. وهذا ما يغير صورة القوة الأمريكية القادرة على التدخل السريع. والاكتفاء بتأمين تمويل للحرب ودعم تسليحي عند الاضطرار من دول ذات مصالح مشتركة كما هو حاصل في الحرب الأوكرانية.
ضعف السياسة الخارجية
ويأخذنا ذلك، إلى مؤشر مهم أيضاً هون ضعف النفوذ الدبلوماسي الأميركي في معالجة الأزمات وحل النزاعات الدولية، ما يبيّن ضعف الفعالية الأمريكية الخارجية، وهذا ما بدأ يظهر أيضاً فقدان ثقة الحلفاء بالإدارة الأمريكية وضبابية المعايير في بناء العلاقات مع الحلفاء والشركاء في عهدي ترامب وبايدن خاصة من قبل الأوروبيين والعرب. وبالتالي فشل تطوير استراتيجية جديدة تتجاوز الثغرات السابقة في السياسة الخارجية وبناء التحالفات، في مقابل تنامي قدرة المنافسين الإقليميين ومحاولة الخروج من العباءة الأمريكية في بعض الملفات كما حصل في الملفين التركي والسعودي، كدخول حلفاء أمريكا في تحالفات مع منافسيها مثل العلاقة السعودية الروسية والصينية وكذلك العلاقة التركية الروسية والعلاقة الإيرانية الصينية الروسية والعلاقة الإيرانية الإماراتية والقطرية. هذا فضلاً عن فشل مشروع التطبيع ومشاريع الأمن الإقليمي التي رسمتها واشنطن لمنطقة الشرق الأوسط، وقد ظهر مدى رفض الشعوب العربية للتعايش مع الصهاينة أثناء فعاليات كأس العالم.
الانكفاء واستراتيجية العقوبات
ومن المؤشرات المهمة التي يمكن البناء عليها، هي استراتيجية الانكفاء في تخفيف التركيز على منطقة الشرق الأوسط والتي تبرز في عدم إيلاء المنطقة أهمية كبرى، والإحجام عن التدخل العسكري فيها، والخروج من الحروب التي لا نهاية لها، حيث يعبر الخروج من أفغانستان أنموذجاً لذلك ، والفشل مثلاً في حل عقدة البرنامج النووي الإيراني.
وفي مقابل هذا الانكفاء، تركز واشنطن على سياسة العقوبات بدلاً من التدخلات العسكرية ضد الدول المناهضة لأمريكا، مثل ما يحصل مع إيران وروسيا، علماً أن هذا السلاح لم يعد يجد نفعاً، وهذا ما يعترف به الأميركيون أنفسهم، فبعض الدول تمكنت من كسر جدار العقوبات الأمريكية والعزلة السياسية والحصار الاقتصادي مع ما يعنيه ذلك من تسجيل إنجازات جديدة في اختراق السياسة الأمريكية في العالم، ويمكن النظر هنا إلى ما يحصل حالياً مع فنزويلا حيث بدأت أميركا برفع الحصار عنها للاستفادة النفطية منها.
سقوط نموذج الديمقراطية الأميركية
إن أحد أبرز مؤشرات تراجع هذه الديمقراطية هي حادثة الكونغرس، وكذلك الانقسام الحاد في المجتمع السياسي والذي يحصل بسبب عنف متقابل، وقد بدأت منذ عام 2020 التصويب بشكلٍ دائمٍ على الديمقراطية الأمريكية وتراجعها منذ عهد ترامب إلى عهد بايدن والحديث دائماً عن ضرورة إعادة ترميم صورة أمريكا. هذا فضلاً عن حجم الانقسام العميق في المجتمع السياسي وتراجع حجم الثقة بفاعلية النظام السياسي الذي يحكم في الولايات المتحدة الأميركية، وكذلك ضعف صورة الرئيس الأمريكي في الداخل والخارج.
إن ما تقدم، يعكس النقاط التي تظهر تراجع القوة الأميركية، وإن كانت الولايات المتحدة الأميركية لا تزال تتربع على عرش النظام الدولي، ولديها الكثير من عناصر القوة في كافة المستويات، إلا أن ذلك لا يعني أن أمريكا اليوم هي كما كانت عليه إبان سقوط جدار برلين أو غزو أفغانستان والعراق، فإن مقابل ترهل هذه القوة، أو على أقل تقدير تراجعها، يوجد قوة متعددة تسعى إلى الوصول إلى قمة الهرم، كما أن هناك دولاً تسعى لكي تثبت نفسها لاعباً أساسياً سواء على المستوى الدولي أو على المستوى الإقليمي، وبالتالي فإن الواقع الحالي يعكس حقيقة أن واشنطن لم تعد تمارس سياساتها إلا من منطلقات ضرورة كسر الآخرين للمحافظة على التفوق، وليس من نظرة القوة المطلقة أو ما كان يعرف بالاستثنائية الأميركية في العالم.