يركز التحليل البنيوي للنظام الدولي على دراسة الهياكل الأساسية التي تشكل العلاقات بين الدول، وخاصة توزيع القوة، وتأثير الفوضى الدولية، والتغيرات في ميزان القوى. تُعد حرب "طوفان الأقصى"، التي اندلعت في 7 أكتوبر 2023 بين المقاومة الفلسطينية بقيادة حركة حماس و"إسرائيل"، حدثًا جيوسياسيًا مهمًا أعاد تشكيل العديد من التوازنات في المنطقة والعالم.
التحليل البنيوي للنظام الدولي قبل حرب "طوفان الأقصى"
قبل هذه الحرب، كان النظام الدولي في حالة من التعددية القطبية غير المستقرة، حيث برزت عدة قوى عالمية (الولايات المتحدة، الصين، روسيا، الاتحاد الأوروبي)، بينما كانت المنطقة الشرق أوسطية تخضع لتنافس بين القوى الإقليمية (إيران، تركيا، السعودية، إسرائيل). كان النظام يميل إلى التوجه الأمريكي في دعم "إسرائيل" دون تغيرات جوهرية في موقف القوى الكبرى من القضية الفلسطينية.
- الولايات المتحدة: كانت تحافظ على دعمها الثابت "لإسرائيل"، لكنها سعت إلى تهدئة الصراع "الإسرائيلي"-الفلسطيني من خلال اتفاقيات مثل “اتفاقيات أبراهام”.
- إيران وحلفاؤها: سعت إلى تعزيز نفوذها عبر دعم حركات المقاومة (حزب الله، اليمن، العراق، حماس، الجهاد الإسلامي).
- الدول العربية: كانت تتحرك نحو التطبيع مع "إسرائيل" في إطار استراتيجيات التحالف مع الغرب والاستفادة الاقتصادية.
- الصين وروسيا: رغم كونهما قوتين عالميتين، لم تكونا منخرطتين بشكل عميق في الصراع "الإسرائيلي"-الفلسطيني، وركزتا أكثر على ملفات مثل أوكرانيا وتايوان.
تأثير حرب "طوفان الأقصى" على بنية النظام الدولي
الحرب أحدثت تحولات بنيوية في عدة جوانب:
أ. التغير في ميزان القوى الإقليمي
- "إسرائيل": رغم تفوقها العسكري والاستخباراتي، تلقت ضربة استراتيجية كبيرة أظهرت ثغرات أمنية وعسكرية خطيرة، مما أدى إلى تراجع صورتها كقوة لا تُقهر.
- المقاومة الفلسطينية: برهنت على قدرتها على تنفيذ عمليات نوعية، مما أكسبها دعمًا شعبيًا وجعل القضية الفلسطينية أكثر حضورًا على الأجندة الدولية.
- إيران وحلفاؤها: عززت الحرب دور إيران كقوة إقليمية، حيث أصبحت لاعبًا أساسيًا في أي تسوية مستقبلية.
- الدول العربية: تعرضت بعض الأنظمة لضغوط شعبية لوقف التطبيع، مما أدى إلى تباطؤ أو إعادة تقييم العلاقات مع إسرائيل.
ب. التأثير على العلاقات الدولية الكبرى
- الولايات المتحدة: وجدت نفسها أمام مأزق استراتيجي، حيث تحاول دعم "إسرائيل" مع تجنب تصعيد كبير مع إيران وحلفائها. أدت الحرب إلى تحديات داخلية في أمريكا، خاصة مع تصاعد الأصوات المنتقدة للدعم غير المشروط "لإسرائيل".
- الصين: استغلت الأزمة لتعزيز مكانتها كلاعب دبلوماسي، حيث دعت إلى حل سياسي وبرزت كطرف أكثر توازنًا من الولايات المتحدة.
- روسيا: رأت في الحرب فرصة لتحويل الاهتمام العالمي بعيدًا عن أوكرانيا، كما حاولت تعزيز تحالفاتها مع دول الشرق الأوسط، وخاصة إيران.
هل تغير المنظور البنيوي للنظام الدولي؟
نعم، يمكن القول إن حرب "طوفان الأقصى" أحدثت تحولًا في بعض العناصر الأساسية للتحليل البنيوي للنظام الدولي:
أ. منطق الفوضى في النظام الدولي ازداد تعقيدًا
وفقًا للنظرية البنيوية، فإن النظام الدولي فوضوي بطبيعته لأنه يفتقر إلى سلطة مركزية منظمة. الحرب أثبتت أن الفوضى ليست فقط سمة للنظام الدولي، بل إنها أصبحت أكثر تعقيدًا مع دخول لاعبين غير دوليين بقوة في المشهد، مثل حماس وحزب الله والحوثيين، الذين أصبحوا قادرين على التأثير في التوازنات الإقليمية والعالمية.
هذا يغير منظور الواقعية البنيوية التقليدية، التي تركز عادةً على الدول كوحدات أساسية في النظام الدولي، إذ أصبح من الواضح أن الجهات الفاعلة غير الحكومية قادرة على زعزعة استقرار القوى الكبرى وإجبارها على إعادة حساباتها.
ب. إعادة تشكيل النظام الدولي من حيث توزيع القوة
قبل الحرب، كان النظام الدولي يميل نحو أحادية قطبية ضعيفة، حيث كانت الولايات المتحدة لا تزال القوة المهيمنة، ولكنها فقدت القدرة على التحكم المطلق في الأوضاع العالمية. بعد الحرب، برزت عدة تحولات:
- تراجع الهيمنة الأمريكية: رغم استمرار الدعم الأمريكي "لإسرائيل"، فإن فشلها في منع تداعيات الحرب أو احتوائها كشف عن تراجع قدرتها على فرض سيطرتها. كما أن التركيز الأمريكي المفرط على أوكرانيا ترك فراغًا استغلته قوى أخرى مثل الصين وإيران.
- بروز قوى إقليمية جديدة: إيران عززت مكانتها كلاعب إقليمي محوري، وتركيا بدأت تلعب دورًا أكثر نشاطًا في التوسط بين الأطراف.
- تقوية المحور الشرقي (الصين-روسيا-إيران): الحرب دفعت هذه الدول إلى مزيد من التقارب في مواجهة الهيمنة الغربية.
ج. التغير في أنماط التحالفات والعلاقات الدولية
قبل الحرب، كانت العلاقات الدولية تتجه نحو التطبيع العربي-"الإسرائيلي" ضمن رؤية أمريكية لخلق تحالف إقليمي ضد إيران، لكن بعد الحرب، حدثت تحولات كبيرة في خريطة التحالفات:
- تراجع وتيرة التطبيع العربي مع "إسرائيل":
- دول مثل السعودية، التي كانت على وشك توقيع اتفاق تطبيع مع "إسرائيل"، أصبحت أكثر حذرًا بسبب الغضب الشعبي والتكلفة السياسية الكبيرة لدعم "إسرائيل" في ظل مشاهد الدمار في غزة.
- دول أخرى مثل الأردن ومصر، رغم استمرار علاقاتها مع "إسرائيل"، باتت أكثر انتقادًا للسياسات "الإسرائيلية" بسبب الضغوط الشعبية والتخوفات الأمنية.
- تعزيز التحالفات بين إيران وحلفائها:
- أثبتت الحرب أن محور “المقاومة” (إيران، حزب الله، حماس، الحوثيون، وبعض الفصائل العراقية) قادر على تشكيل تهديد استراتيجي "لإسرائيل" وإعادة ترتيب الأولويات في الشرق الأوسط.
- إيران استغلت الصراع لتعزيز موقعها كقوة إقليمية ودعم موقفها في أي مفاوضات مستقبلية مع الغرب.
- تغير حسابات القوى الكبرى:
- روسيا وجدت في الحرب فرصة لتحويل الأنظار عن أوكرانيا، وعززت علاقاتها مع الدول العربية وإيران.
- الصين حافظت على موقف متوازن، داعية إلى حل سياسي، لكنها استغلت الوضع لتقديم نفسها كوسيط دولي بديل عن الولايات المتحدة.
- أوروبا، رغم دعمها التقليدي "لإسرائيل"، شهدت انقسامات داخلية، حيث ضغطت بعض الدول مثل إسبانيا وأيرلندا لوقف إطلاق النار، بينما تبنت دول أخرى مثل فرنسا وألمانيا موقفًا أكثر دعمًا لإسرائيل.
إعادة تعريف الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي في النظام الدولي
حرب "طوفان الأقصى" غيرت طريقة تعامل المجتمع الدولي مع القضية الفلسطينية، حيث تحولت من نزاع ثانوي أو مجمد إلى قضية مركزية تؤثر على الأمن والاستقرار العالميين.
أ. عودة القضية الفلسطينية إلى واجهة النظام الدولي
قبل حرب "طوفان الأقصى"، كانت القضية الفلسطينية تعاني من تهميش دبلوماسي لصالح قضايا مثل الحرب في أوكرانيا والتوتر في شرق آسيا. لكن بعد الحرب:
- أصبحت القضية أولوية في الأمم المتحدة ومجلس الأمن، حيث شهدت نقاشات مكثفة حول وقف إطلاق النار، المساعدات الإنسانية، وانتهاكات حقوق الإنسان في غزة.
- تصاعدت الضغوط الشعبية في الغرب، حيث شهدت عواصم مثل لندن وباريس ونيويورك مظاهرات ضخمة مؤيدة للفلسطينيين، مما أجبر بعض الحكومات على إعادة النظر في دعمها المطلق "لإسرائيل".
- بدأت بعض الدول في اتخاذ مواقف أكثر استقلالية، مثل إسبانيا وأيرلندا وبلجيكا، التي دعت إلى فرض عقوبات على "إسرائيل" وفرض الاعتراف بالدولة الفلسطينية كجزء من الحل.
ب. تغيير نظرة المجتمع الدولي للصراع
- لم تعد القضية الفلسطينية تُعتبر مجرد نزاع محلي بين "إسرائيل" والفلسطينيين، بل أصبحت قضية جيوسياسية ذات أبعاد إقليمية ودولية، خاصة مع دخول أطراف مثل حزب الله والحوثيين على خط المواجهة.
- بدأ العالم ينظر إلى الحرب من زاوية حقوق الإنسان والقانون الدولي أكثر من كونها مجرد مسألة أمنية "إسرائيلية"، مما أدى إلى زيادة الضغوط على الحكومات الغربية لاتخاذ مواقف أكثر توازنًا.
- صعود الحديث عن ضرورة حل سياسي جذري، حيث أصبح واضحًا أن محاولات تهميش القضية الفلسطينية أو إدارتها بوسائل مؤقتة لم تعد مجدية، مما يعيد إحياء فكرة حل الدولتين أو بدائل أخرى.
مستقبل النظام الدولي بعد حرب "طوفان الأقصى"
استنادًا إلى التحليل البنيوي، يمكن توقع بعض التحولات المستقبلية في النظام الدولي نتيجة للحرب:
أ. تحول ميزان القوى في الشرق الأوسط
- "إسرائيل" ستواجه تحديات استراتيجية غير مسبوقة، حيث لم تعد قادرة على الاعتماد على تفوقها العسكري وحده لضمان أمنها، مما قد يدفعها إلى تعزيز تحالفاتها مع الغرب أو تبني سياسات أكثر تصعيدًا.
- إيران وحلفاؤها أصبحوا أكثر جرأة في فرض شروطهم، مما قد يؤدي إلى تصعيد مستقبلي إذا لم يتم احتواء الوضع.
- الدول العربية ستجد نفسها أمام معضلة بين الضغوط الشعبية والتزاماتها الدولية، مما قد يؤدي إلى تغييرات في سياساتها الخارجية.
ب. تغير أولويات القوى الكبرى
- الولايات المتحدة ستضطر إلى إعادة تقييم استراتيجيتها في الشرق الأوسط، خاصة مع تصاعد الانتقادات الداخلية لدعمها غير المشروط لإسرائيل.
- الصين قد تستغل الموقف لتعزيز دورها كوسيط دبلوماسي، خاصة في ظل تراجع التأثير الأمريكي.
- روسيا ستواصل استغلال الأزمة لتعزيز تحالفاتها مع دول الشرق الأوسط وصرف الانتباه عن الحرب في أوكرانيا.
ج. تزايد دور الفاعلين غير الدوليين
- الحرب أثبتت أن القوى غير الحكومية، مثل حماس وحزب الله، يمكن أن يكون لها تأثير كبير على التوازنات الدولية.
- قد يؤدي ذلك إلى إعادة النظر في كيفية إدارة النزاعات الدولية، حيث لم يعد بإمكان القوى الكبرى تجاهل هذه الجهات الفاعلة أو التعامل معها فقط من منظور أمني.
يمكن القول إن حرب "طوفان الأقصى" لم تكن مجرد صراع إقليمي محدود، بل حدثًا بنيويًا غيّر في طبيعة النظام الدولي.
- الحرب أعادت القضية الفلسطينية إلى مركز الاهتمام الدولي، وأثبتت أن الحلول الجزئية أو التجاهل لم تعد خيارات ممكنة.
- تراجعت الهيمنة المطلقة للولايات المتحدة في إدارة الشرق الأوسط، مما فتح المجال أمام بروز قوى جديدة مثل الصين وروسيا وإيران.
- أصبحت التحالفات الإقليمية والدولية أكثر سيولة، مع تراجع اندفاعة التطبيع العربي الإسرائيلي، وزيادة التقارب بين محور إيران وحلفائه.
بالتالي، يمكن القول إننا أمام تحول في بنية النظام الدولي، حيث أصبح الشرق الأوسط مرة أخرى مركزًا لصراعات القوى الكبرى، وازدادت تعقيدات الفوضى الدولية، مما يجعل الفترة القادمة مفتوحة على عدة سيناريوهات، من التصعيد إلى الحلول الدبلوماسية المعقدة.
كاتب صحفي فلسطيني
بكالوريوس في الصحافة والإعلام
دكتوراه في الحقوق
mohammedwajeehal@gmail.com