أكثر من ستة أشهر مرّت على بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا والتي جاءت في إطار استجابة عاجلة لتهديدات أمنية طرأت على طبيعة العلاقات الروسية-الأوروبية وخاصة في ظل الدفع الأمريكي والتجييش ضد روسيا بما يهدف إلى تحقيق أهداف جيوسياسية توسعية، لإنهاك الدولة الروسية وتدميرها باعتبارها قطب دولي صاعد يذهب نحو إعادة هيكلة النظام الدولي تجاه التعددية القطبية مع شركائها.
حققت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا العديد من الأهداف التي وضعتها القيادة الروسية لحماية "محيطها الحيوي"، وذلك بناء على تقارير استخبارية تؤكد ما تم الحديث عنه سابقاً بوجود مخططات غربية لاستهداف الداخل الروسي وتفجير محيطه بالفوضى، من خلال زعزعة الاستقرار واستخدام أساليب الحروب غير التقليدية في هذه المعركة، ولعل إعلان روسيا التعبئة الجزىية الأخيرة بما يشمل 300 ألف عسكري، وتوسيع عديد الجيش الروسي شكّلت أهم التطورات التي حصلت لجهة اختلاف طبيعة العمليات القتالية مستقبلاً، واتساع دائرة الأسلحة المستخدمة في هذه العملية، إضافة إلى تصريحات نائب رئيس مجلس الأمن القومي الروسي ديمتري ميدفيديف بأن:" جميع الأسلحة بما في ذلك النووية ستُستخدم لحماية الأراضي الروسية". في إشارة صريحة إلى أن جميع الخيارات مفتوحة خاصة للأسلحة النووية التكتيكية في حال زيادة التصعيد الغربي والتي تتفوق بها روسيا بطبيعة الحال على نظيرتها الأمريكية والغربية، إضافة إلى أن هذه التصريحات ستشمل المقاطعات الأربع (لوغانسك، دونيتسك، خيرسون، زاباروجيا) التي جرى الاستفتاء فيها للانضمام إلى الاتحاد الروسي، والذي وقع مرسوم انضمامها الرئيس بوتين الجمعة، حيث تبلغ مساحتها 120 ألف كم2 بما يشكّل خُمس مساحة أوكرانيا؛ وهذا مادفع الغرب للتصعيد بتصريحاته "ورفض عملية الاستفتاء" التي حصلت، فضلاً عن سيطرة القوات الرّوسية على بحر آزوف وأكثر من 50% من شواطئ البحر الأسود مما أعطى قوة جيوسياسية لروسيا للتحكّم بالممرات المائيّة والطرق البحرية لصالحها.
في إطار تداعيات هذه العملية على الصعيد السياسيّ والاقتصاديّ خاصة على أوروبا، لخّص عضو "المجلس الأطلسي" ماثيو كرونيغ بعض الخيارات التي قد تُستخدم من قبل الإدارة الأمريكية في حال التصعيد، ويتمثّل الخيار الأوّل: في الرّد بالمثل في حال استخدام الأسلحة النووية عبر نشر فرق نووية تكتيكية في المحيط المتجمد الشمالي أو سيبيريا وهذا الخيار من شأنه الذهاب نحو نتائج مروعة. أما الخيار الثاني قد يكون أفضل في ظلّ طبيعة العمليات القائمة عبر توجيه الولايات المتحدة لضربة تقليدية للقوات الروسية في الوقت الذي تعاني فيه الإدارة الأمريكيّة من تراجعٍ في منسوب قوتها وهيمنتها ولا سيما في خضمّ الترتيبات التي آتت أؤكلها وكانت نتاجاً للعملية الروسية الخاصّة، وهذا ما أكده مستشار الأمن القومي الأميركي ووزير الخارجية السابق هنري كيسنجر بقولهِ: "أن الولايات المتحدة أساءت التقدير في الحرب الأوكرانية". كما أن الولايات المتحدة وأوروبا قد رفعت مستوى المواجهات ضد روسيا بإجراءات غير مسبوقة تمثّلت بفرض العقوبات التي طالت مختلف القطاعات حتى الفنيّة والرياضيّة منها، إضافة لضخّ الأموال الهائلة لأوكرانيا وفتح باب مخازن الأسلحة في إطار خطة داعمة هدفها محاولة إقصاء روسيا وإبعادها عن تحقيق أهدافها، وكبح تقدم قواتها وكان آخر أشكال هذا الدعم إقرار مجلس الشيوخ الأمريكي مساعدات لأوكرانيا تقدر بقيمة 12 مليار دولار.
كما أفادت صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية بأن البنتاغون يخطط لإنشاء قاعدة عسكرية جديدة له في ألمانيا، مهمتها الأساسية الإشراف على تقديم الدعم العسكري واللوجستي لأوكرانيا، جاء هذا بناءً على مقترح من كبير الضباط الأميركيين في أوروبا "كريستوفر كافولي" الذي قدّمه لوزير الدفاع الأمريكي "لويد أوستين"، ومن شأن هذه الخطوة في حال إقرارها إطالة أمد العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، لا سيما أن هذه العملية تأخذ في مضمونها طابع حرب عالمية ثالثة.
إذن، هي معركة حاسمة لن يتراجع عنها أي من الأطراف، وموسكو على وجه التحديد تُدرك تماماً أن هذه العملية والنتائج المتمخّضة عنها لا بد أن تساهم في بلورة نظام عالميّ جديد في ظل امتلاكها للعديد من الأوراق الرّابحة التي لم يتم استخدامها بعد، وأكثر ما يتم خشيته هو الانتقال من الحرب بالوكالة من قبل الولايات المتحدة إلى المواجهة المباشرة، كما أنه من الممكن أن تقوم الولايات المتحدة نتيجة للتقدم الروسي والذي لن يقف عند المقاطعات الأربع التي تم ضمّها مؤخراً، إلى تزويد الجانب الأوكراني بصواريخ بعيدة المدى ومنظومات دفاع جوي متوسطة وقصيرة المدى وزيادة عدد الضباط والاستشاريين والاستخباريين، وهو ما يؤدي لتحوّل في قواعد المعركة، والذي سوف تعتبره روسيا بمثابة إعلان حرب عليها، وهذا ما سيتضح بشكل أكبر خلال الفترة القليلة القادمة وسط تصعيد محتّم بين مختلف الفواعل.
هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة رأي الموقع
الكاتب: عزيز موسى