في الرابع عشر من شهر أيلول / سبتمبر من العام 1982، شاب عشريني، زرع حوالي 200 كيلو غرام من مادة "TNT" ليضمن تدمير أحلام "إسرائيل" في لبنان من مهدها بـ "بيت الكتائب" بمنطقة الأشرفية. اغتال حبيب الشرتوني رئيس الجمهورية آنذاك ورئيس حزب الكتائب اللبنانية بشير الجميّل الذي اشتهر بأنه وصل الى هذا المنصب على ظهر الدبابة الإسرائيلية، وقد جمعته الصور مع المسؤولين الإسرائيليين ربما أكثر من اللبنانيين. وهذا الواقع الموثّق لا يمكن أن ينكره من طالب بإصدار حكم الإعدام بحق الشرتوني.
الاجتياح لأجل انتخاب بشير رئيساً!
فالاجتياح الإسرائيلي للبنان الذي وقع في حزيران من العام 1982، تم إعداد خطته مسبقاً، منذ اتفاق وقف إطلاق النار في 24 يوليو / تموز 1981، الذي وقّع بين لبنان وكيان الاحتلال ولكنه كان عمليًا بين الكيان ومنظمة التحرير الفلسطينية. التزمت المنظمة بعدم استهداف مستوطنات شمال فلسطين المحتلّة، لكنّ الاحتلال كان يبحث عن ذريعة لجرّ المنظمة نحو القتال من جديد لينتهز الفرصة ويجتاح لبنان.
حدّد رؤساء الكيان آنذاك موعد منتصف صيف العام 1982 لبدء الحرب ليتقاطع مع الاستحقاق الرئاسي في بيروت، ينتج عن الحرب وعن "مساعدة" الاحتلال انتخاب بشير الجميّل رئيساً! وكان الهدف الرئيسي بعدها "كسر وجود الإرهابيين في جنوب لبنان (المقاومة) ومنطقته الساحلية من خلال تحرك عسكري على طول الساحل في المنطقة الواقعة بين رأس البيضة وبيروت، كما "ربط الجيب المسيحي الشمالي (من بيروت والشمال) بالمنطقة الجنوبية على طول الساحل وفي محاولة لإقامة حكومة مواتية لإسرائيل".
اللقاءات الأولى لبشير مع رؤساء الاحتلال
الوصول للرئاسة وتحقيق مكاسبه الشخصية على حساب البلد والشعب اللبناني بكّل مكوناته حتّى المسيحيين الموارنة، كانت "ثمرة" العلاقات العميقة التي جمعت الجميّل برؤساء الاحتلال. يكشف الكتاب العبري بعنوان " 1982 - لبنان، الطريق إلى الحرب"، أن "الجميّل" اتخذ قرارًا عام 1976 بالتعاون مع "إسرائيل" والتقى برئيس حكومة الاحتلال آنذاك يتسحاق رابين، على متن سفينة في البحر. كما ذكر الكتاب أوّل زيارة "للجميّل" الى فلسطين المحتلّة وخلالها زار كنيسة "المهد" في بيت لحم. وزعم الكتاب أن رؤساء الاحتلال لم يهتّموا بتطوير العلاقات مع لبنان في ذلك الوقت، "لذا دخل "الموساد" في أوائل الثمانينيات على الخّط وتسلّم الملّف".
في العام 1981، كان اللقاء الأول "للجميل" مع وزير حرب الاحتلال أرئيل شارون الذي كان له الدور الكبير في تخطيط وتنفيذ الاجتياح. كان "شارون" برفقة وفد "الموساد" في زيارة الى لبنان، جلسوا للعشاء سوياً في مطعم كان يدعى "البستان" في العاصمة بيروت حيث تناول "شارون" 12 طبقاً من "الحمص". ومن باب المصادفة، اجتمع "الجميّل" مع "شارون" 12 مرّة خلال حياته.
الكتاب للمؤرخ الإسرائيلي يغآل كيبنيس، ينقل أحاديثاً عن "الموساد" تفيد بأن شارون كان ينادي الجميّل بـ "يا بني"، فيما خاطبه رئيس أركان الجيش رفائيل إيتان "يا أخي"، وأن المحادثات كانت تتم باللغتين الفرنسية والإنجليزية. وادعى مسؤول ممثلية الموساد في لبنان، أفنير أزولاي إن "بشير لم يكُن كذابًا، بل قال الحقيقة دائمًاً...نحن الإسرائيليين كُنّا نكذب عليه وعلى أنفسنا".
بشير: شاب صغير لا يتحمّل الضغوطات!
تضمن الكتاب أيضًا كلاماً لقائد سلاح الجوّ في جيش الاحتلال في تلك الفترة الجنرال دافيد عيفري، اذ روى أنه نظّم رحلة لبشير من قاعدة "تل نوف" الإسرائيليّة إلى لبنان، وقال:" قبل سنةٍ من ذلك تعرّفت إليه في جونية، وانطباعي عنه كان سيئًا، كما أنّ الخطط التي عرضها قادة المسيحيين أمامنا لم تكُن مرتبطةً بالواقع. وعندما بدأت الرحلة بالطائرة رأيت أنّ الرجل كان خائفًا جدًا ووجهه شاحبًا، ويُطلِق تنهدات، وكلّما تقدّمنا باتجاه لبنان زاد خوفه، وتبينّ ليّ أنّه تقيأ كلّ ما في بطنه بسبب الخوف، لذا عدنا إلى تل أبيب". وتابع: "إن الحديث يدور عن شابٍ صغيرٍ لا يقدر أنْ يُواجِه الضغوطات الكبيرة، وهذا الأمر تساوق مع ما كان سائدًا في تلك الفترة لدينا بأنّ الموارنة هم جماعة من الأشخاص المُدللين".
يتحدّث "الموساد ايضاً" عن قصّة تشير الى أن بشير كان "جباناً" فخلال جولة معه بالقرب من منطقة تبادل إطلاق النار، وعندما سمع الجميّل صوت الرصاص، "قفز من سيارة "الجيب" واختبأ بين الأشجار ووراء صخرةٍ كبيرةٍ لشدّة خوفه ورعبه".
شارون يصرخ على الجميل
وباعتبار أن الرؤساء الإسرائيليين غير أوفياء في العلاقات، وحسب التاريخ الذي لم يسجّل مرّة واحدةً أنهم قدّروا عميلاً خدمهم، تخلّلت علاقة الجميّل معهم الشروخ والفجوات وخاصة بعد انتخابه رئيساً للجمهورية اللبنانية في 23 آب / أغسطس 1982. يذكر الكتاب أن رئيس حكومة الاحتلال مناحيم بيغن "استقبل بشير في أحد الفنادق بمدينة نهاريا المتاخمة للحدود مع لبنان. رئيس الوزراء الإسرائيليّ كان غاضبًا جدًا، وطلب من بشير أنْ يستقبله بزيارةٍ رسميّةٍ في بيروت، وأنْ يقوم الجميل بزيارة العاصمة القدس، والتوقيع على اتفاق سلامٍ. اللقاء كان حامي الوطيس.. الجميّل ردّ على أنّه في الظروف الراهنة لا يمكنه التوقيع على السلام وطلب منه مهلة سنة". في تلك اللحظة "ارتفع صراخ بيغن على الجميّل، فقد أعصابه".
وفي 15 أيلول من العام 1982 حين وصل وزير حرب الاحتلال أرئيل شارون الى منطقة "بكفيا" للتعزية ببشير حيث كان في استقباله والد بشير، بيار الجميل وابنه أمين، وقال بيار لشارون "لقد أطلعني بشير على كل ما كان يفعل وعن علاقاته اللصيقة بكم، ولسوف أحمل المشعل". فقاطعه شارون بنبرة جافة " أنا هنا للتعزية بصديق، ولا أريد الكلام في موضوع آخر".
الكاتب: غرفة التحرير