لا شك بأن كل مناصري فلسطين والمقاومة، يتساءلون منذ الأمس الأحد، عن خلفية عدم ردّ المقاومة الفلسطينية ومن خلفها محور القدس، على اعتداءات الكيان المؤقت ومستوطنيه خلال مسيرة الأعلام، ضد مدينة القدس المحتلة والمسجد الأقصى.
وهذا إن دلّ على شيئ، فإنه يدلّ على أن خيار المقاومة بات فعلاً، الأمل والرهان الوحيد والجامع، من أجل تحقيق معادلات ردع ضد كيان الإحتلال أولاً، ومن أجل إنجاز هدف تحرير فلسطين ثانياً. بعدما جهد أغلبية الحكام العرب ويعض الدول الإسلامية، ومن خلفهم الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، طوال العقود الماضية، على التسويق للخيارات الإستسلامية كحلٍّ لذلك، ابتداءاً من المفاوضات ووصولاً للتطبيع.
وبالعودة إلى ما حصل بالأمس، فإنه يمكن من خلال استعراض وتحليل تفاصيل الأحداث المكشوفة، وإعطاء الهامش أمام احتمال وجود معطيات إستخباراتية مخفية لدى غرف عمليات المقاومة (قد تكشف في الفترة المقبلة)، ما يساعد في الوصول إلى الإطمئنان واليقين، بأن ما اتخذه محور المقاومة من إجراء، كان أفضل وأنجع القرارات، من الناحية العسكرية والاستراتيجية أيضاً.
فعلى صعيد المعطيات والتفاصيل المكشوفة، يمكننا ملاحظة عدة نقاط أبرزها:
_ اتخذت جهات القرار في كيان الإحتلال قرارها، في كافة الصعد الأمنية والعسكرية والسياسية، بإجراء مسيرة الأعلام، بعدما قامت باستنفار كل قواها العسكرية بجهوزية 100%، من نشر لمنظومات الدفاع الجوي وتحليق للطيران الحربي بكافة أنواعه القتالية والإستخباراتية وانتشار لفرقها ووحداتها البرية والنخبوية. بما أفقد محور القدس عنصر المفاجأة والمباغتة، في حال اتخاذه القرار بالقيام بأي رد فعل عسكري سواء من غزة أو أي ساحة أخرى. بحيث سيستطيع العدو الرد على إجراء المقاومة حينها بسرعة، وتقليل خسائره، بل وحتى إفشال إجراء المقاومة وربما إيقاع الخسائر الجسيمة في صفوفها. وهذا ما لا ينسجم مع بديهيات وقواعد الفن العسكري، التي عبر عنها الكثير من المفكرين العسكريين، وأبرزهم الصيني "صن تزو" حينما قال في إحدى نصائحه: " اجعل خططك غامضة كالليل وعندما تتحرك انطلق كالعاصفة"، بما يحقق منهجية عمل محور المقاومة الثابتة بالابتعاد عن الإنفعال وضرورة التخطيط البنّاء: "بطئ القيام، سريعٌ إذا قام".
وهذا ما عبّر عنه بوضوح المراسل العسكري للقناة 13 الإسرائيلية، حينما كشف بأن إسرائيل كانت تريد جر قطاع غزة إلى معركة، حيث كانت مناورات عسكرية واسعة النطاق تجري على حدوده. مبيناً أن جيش الإحتلال استخدم لتحقيق ذلك باصات ذات ذكاء اصطناعي كانت تقف على الحدود مع القطاع، لكي تستهدفها المقاومة التي كانت أذكى من القيام ذلك على حد وصفه.
_ تقدير أجهزة استخبارات إسرائيلية بحتمية حصول ردٍ عسكريٍ من المقاومة قي غزة، كما حصل في بداية معركة سيف القدس العام الماضي، والتي كانت أحد أبرز إخفاقتهم حينها عدم توقعهم حصوله. ما سيفقدهم القدرة على التوقع مسبقاً خلال الفترة المقبلة، وعندها تتأكد صفة أساسية لدى المقاومة ومحورها في الحرب اللاتماثلية، وهي الغموض البنّاء والاستراتيجي الذي تميزت فيه دائماً. بينما لا يستطيع جيش الإحتلال اكتساب تلك الصفة مطلقاً، إن فكّر القيام بأي إجراء، لأنه مجبور بقواعد الإستعداد العسكري الكلاسيكية، من حشد وتجهيز وتموضع علنيّ للقوات.
_ أتاح قرار محور المقاومة المجال أمام الإستعداد أكثر للمواجهة المقبلة. ففور انتهاء مسيرة الأعلام بالأمس، أعلن المتحدث الرسمي باسم جيش الإحتلال، انطلاق الأسبوع الأخير من تمرين شهر الحرب "عربات النار"، من خلال بدء مناورة "ما وراء الأفق" في قبرص. والتي تجريها الفرقة 98 بقيادة رئيس الأركان الجنرال أفيف كوخافي والعميد "عوفر فينتر"، وسيتم خلالها تدريب القوات النظامية والاحتياط من فرقة النار، إلى جانب أسراب سلاح الجو، وبمشاركة القوات الخاصة الأخرى من سلاح البحرية والبري، بما في ذلك وحدة الكوماندوس البحري "شيطيت 13″، ووحدة "يهلوم" الهندسية للمهام الخاصة، ووحدة الكلاب "عوكتس"، وقوات شعبة الاستخبارات وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات والدفاع السيبراني. وتهدف هذه المناورة الى تحسين جهوزية القوات المتدربة وكفاءتها في المَهمات العملياتية في عمق أراضي العدو (في لبنان وقطاع غزة وربما في سوريا وساحات أخرى أيضاً)، في تضاريس مختلفة: أحراش، مناطق سكنية حضرية وريفية وجبلية. بهدف التدرب على التكيّف مع منطقة غير مألوفة، وتنفيذ النشاط الموزع اللامركزي بعيداً عن الكيان، في ظل الطوارئ والأحداث المفاجئة، وبالطريقة التي تحاكي الواقع قدر الإمكان، على أن تحاكي القتال القوي والمكثف الذي يعتمد على التعاون بين مختلف أصناف الأسلحة، من مستوى الجندي المقاتل وصولاً إلى هيئة الأركان العامة.
وهذا ما سيتيح لقوى المقاومة مراقبة ودراسة هذه المناورة الفريدة من نوعها، والتي يجريها الكيان لأول مرّة، وبالتالي التخطيط والاستعداد لسيناريوهات مواجهة مناسبة لها.
_ القيام بمناورات حية لما قد تقوم به ساحات المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية وأراضي الـ48 خلال أي مواجهة مستقبلية، ضمن استراتيجية تلاحم الجبهات. وهذا ما حصل بالأمس، حينما شهدت هذه المناطق، تنفيذ أكثر من 235 عملاً مقاوماً، ما بين مواجهة مسلحة وتفجير عبوات ناسفة وتصدي للمستوطنين وغيره، والتي أدت إلى جرح العشرات من الإسرائيليين.
الكاتب: علي نور الدين