في أيلول/ سبتمبر عام 2021، كشفت مجموعة Airwars المعنية بمراقبة الأضرار المدنية بأن عدد المدنيين الذين قضوا جراء الغارات الجوية التي نفذتها المقاتلات الأميركية لا تقل عن 22 ألف مدني، وقد يصل إلى 48 ألف، منذ هجمات 11 أيلول/ سبتمبر عام 2001.
لطالما اعتبرت الولايات المتحدة المدنيين الذين يقتلوا جراء غاراتها الخاطئة "اضرار جانبية" لا بأس ان وقعت ولن تسبب بأي انعطاف في مسار الحرب.
صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية اطلعت على مجموعة وثائق أُخذت من أرشيف سرّي لوزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) عن الحرب الجوية الأميركية في الشرق الأوسط منذ عام 2014، تضم الوثائق تقييمات سريّة أجراها الجيش الأميركي لأكثر من 1300 تقرير حول سقوط ضحايا مدنيين. وكشفت الوثائق عن أن الحرب الجوية اشتملت على أخطاء جسيمة في المعلومات الاستخباراتية، وعمليات استهداف متسرعة وغير دقيقة في كثير من الأحيان، وآلاف القتلى من المدنيين من بينهم العديد من الأطفال. وأشارت الصحيفة إلى أن ذلك يُعتبر تناقضاً صارخاً مع الصورة التي روّجت لها الحكومة الأميركية عن الحرب التي تشنّها باستخدام الطائرات المسيّرة ذات قدرات الرصد الفائقة والقنابل دقيقة التوجيه.
وقالت "نيويورك تايمز" إن هذه الوثائق تكشف أيضاً أنه على الرغم من منظومة الإجراءات والقوانين المعتمدة لدى البنتاغون بشأن التحقيق في وقائع الضحايا المدنيين، فقد حلّ التعتيم والإفلات من العقاب محلّ تعهدات الشفافية والمساءلة. فلم تُنشر نتائج التحقيقات إلا في عدد قليل من الحالات، ولم تتضمن أية وثيقة إقراراً بوقوع خطأ أو توثيقاً لاتخاذ إجراء تأديبي. وصُرفت تعويضات لأقل من عشرة حالات، برغم إصابة الكثير من الناجين بإعاقات تتطلب رعاية طبية باهظة. أما الجهود الموثّقة لتحديد الأسباب الرئيسية لهذه الإخفاقات أو الدروس المستفادة منها فلم يرد ذكرها إلا قليلاً.
وأضافت: تمثّل الحملة الجوية تحولاً جذرياً في أساليب الحرب ظهر في السنوات الأخيرة من إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما، وسط التراجع الكبير لشعبية الحروب الطويلة التي حصدت أرواح أكثر من 6000 جندي أميركي. فبدلاً من إرسال الجنود إلى ميدان المعركة، استعانت الولايات المتحدة بترسانة طائرات يُوجّهها مراقبون يجلسون أمام شاشات الكمبيوتر على بعد آلاف الأميال. وقد وصف أوباما هذه الحرب بأنها "الحملة الجوية الأكثر دقّة في التاريخ".
وقالت الصحيفة إن الوعد كان كالتالي: "التكنولوجيا الفائقة" التي تمتلكها الولايات المتحدة ستمكّن الجيش من قتل الأشخاص المستهدَفين مع توخّي أعلى درجات الحذر كي لا يلحق الضرر بأشخاص غير مقصودين.
انهارت خلافة "داعش" في نهاية المطاف تحت وطأة القصف الأميركي. وعلى مدار سنوات، كان سلاح الجو الأميركي عاملاً محورياً في بقاء الحكومة الأفغانية المحاصرة. ومع انخفاض أعداد القتلى بين القوات الأميركية، غابت تلك الحروب البعيدة، وضحاياها من المدنيين، عن أنظار وعقول غالبية الأميركيين.
وأضافت الصحيفة: قُطِعت الوعود بحربٍ تنفّذها طائرات مسيّرة ذات قدرات رصد فائقة وقنابل دقيقة التوجيه، لكنّ الوثائق تكشف عن معلومات استخباراتية مغلوطة، وعمليات استهداف خاطئة، وسنوات من سقوط القتلى بين صفوف المدنيين – والقليل جداً من المساءلة.
وأوضحت "نيويورك تايمز" أن هذا التحقيق هو الجزء الأول في سلسلة تحقيقات يرصد الجزء الثاني منها حصيلة الخسائر البشرية الناجمة عن الحرب الجوية.
وأعطت الصحيفة أمثلة عن هذه الإخفاقات الأميركية التي أدت إلى سقوط ضحايا مدنيين. فقبيل الساعة الثالثة صباحاً من يوم التاسع عشر من تموز / يوليو عام 2016، قصفت قوات العمليات الخاصة الأميركية ما كانت تعتقد أنها ثلاث "مناطق استعداد" تابعة لتنظيم داعش في ضواحي قرية التوخار شمال سوريا. وأفادت القوات بأن الغارة أسفرت عن مقتل 85 مقاتلاً، لكن الحقيقة أنها قصفت منازل بعيدة عن جبهة القتال كان يحتمي في داخلها بعض المزارعين وعائلاتهم وعدد من سكان القرية من القصف وإطلاق النيران ليلاً. وقد قُتل أكثر من 120 شخصاً من سكان القرية في تلك الليلة.
وفي مطلع عام 2017 في العراق، قصفت طائرة حربية أميركية سيارةً داكنة اللون، كان يُعتقد أنها سيارة مفخخة، بعد أن توقفت في تقاطع طرق في حي وادي حَجَر غرب الموصل. والحقيقة أن السيارة لم تكن تحمل قنبلةً، بل كان فيها رجلٌ يُدعى ماجد محمود أحمد وزوجته وطفلاهما حيث كانوا يلوذون بالفرار من منطقة قتال قريبة. قُتل الأربعة وثلاثة مدنيين آخرين.
وفي تشرين الثاني / نوفمبر عام 2015، قصفت القوات الأميركية أحد المباني في مدينة الرمادي بالعراق بعد أن رصدت شخصاً يجرّ "جسماً ثقيلاً مجهول الهوية" إلى "موقع قتال دفاعي" تابع لتنظيم داعش. وكشفت مراجعة الجيش للغارة أن هذا الجسم كان في حقيقة الأمر "شخصاً ضئيل البنية" – هو طفلٌ – لقى حتفه في الغارة.
وأشارت الصحيفة إلى أن البنتاغون لم يعترف بارتكاب أخطاء في أي من تلك الإخفاقات التي أودت بحياة المدنيين. في بعض الأحيان، كانت بعض الروايات الصادمة تخرق جدار الصمت. فقد كشف تحقيق الصحيفة أن غارةً بطائرة مسيّرة على كابول في آب / أغسطس 2021 قد تسببت بمقتل 10 أشخاص من عائلة أفغانية واحدة، خلافاً لتصريح مسؤولين أميركيين بأنها دمّرت سيارة مفخخة. ومؤخراً أفادت الصحيفة بأن عشرات المدنيين قُتلوا في عملية قصف في سوريا عام 2019 أخفاها الجيش عن الرأي العام. نُفّذت هذه الغارة بأمرٍ من خلية سريّة اسمها "تالون أنفيل" وهي معروفةٌ – بحسب أشخاص عملوا معها – بتجاوز الإجراءات الموضوعة لحماية المدنيين مراراً. نفّذت "تالون أنفيل" قدراً كبيراً من العمليات في الحرب الجوية ضد تنظيم داعش في سوريا.
في حين قال النقيب بيل أوربان، المتحدث الرسمي باسم القيادة الوسطى الأميركية: "تحدث الأخطاء حتى مع استخدام أفضل التكنولوجيا في العالم، سواءٌ بسبب المعلومات المنقوصة أو التفسير الخاطئ للمعلومات المتاحة. ونحن نحاول التعلّم من هذه الأخطاء". كما أضاف: "نسعى جاهدين لتفادي مثل هذه الأضرار. نحقّق في كلّ واقعة ذات مصداقية، ونشعر بالأسى تجاه أي خسارة في أرواح".
لكن الوثائق السريّة تكشف أن المدنيين قد أصبحوا ضمن الخسائر الجانبية المعتادة لطريقة حرب بلغت منها الأخطاء مبلغاً، علّقت الصحيفة الأميركية على كلام أوربان.
وأوضحت الصحيفة أنه لا يمكن تحديد الحصيلة الكلية للضحايا، لكن المؤكد أنها أعلى بكثير مما أعلنته وزارة الدفاع الأميركية. فوفقاً لتقديرات الجيش، قُتل 1417 مدنياً في غارات جوية في الحملة التي استهدفت تنظيم داعش في العراق وسوريا؛ ومنذ عام 2018 في أفغانستان تسببت العمليات الجوية الأميركية بمقتل 188 مدنياً على الأقل. لكن تحليل "نيويورك تايمز" للوثائق كشف أن العديد من دعاوى وقوع ضحايا من المدنيين قد رُفضت استناداً لإجراءات تعسفية وتقييم ضئيل. وكشف التحقيق الميداني – الذي تضمّن دعاوى رُفضت، ودعاوى اعتُبرت "ذات مصداقية"، ودعاوى في أفغانستان لم يرد ذكرها في وثائق البنتاغون – أن هناك مئات القتلى لم تُحتسَب أعدادهم.
وأشارت "نيويورك تايمز" إلى أن حرب الأسلحة الدقيقة لم تَعِد بأن المدنيين لن يُقتلوا. لكن قبل التصديق على أي غارة، يجب أن يتخذ الجيش إجراءات مدروسة لتقدير وتفادي الضرر الواقع على المدنيين؛ ويجب أن تكون الخسائر البشرية المتوقعة متناسبةً مع المكاسب العسكرية المحققة. فالقنابل الدقيقة التي تستخدمها الولايات المتحدة هي دقيقةٌ بالفعل: فهي تصيب أهدافها بدقة تكاد لا تُخطئ، بحسب زعم الجيش الأميركي.
في أغلب الأحوال، لم يكن الخطر المحدق بالمدنيين محط انتباه بسبب الهوّة الثقافية بين الجنود الأميركيين والسكان المحليين. ففي الوقت الذي يرصد فيه الجنود أنه "لا وجود للمدنيين"، يكون المدنيون نائمين في نهار شهر رمضان يحتمون داخل بيوتهم من قيظ الصيف أو مجتمعين في بيت واحد عند احتدام القتال. وفي كثير من الحالات، كان المدنيون يظهرون في لقطات المراقبة، لكن لم يلاحظ المحللون وجودهم أو لم يُنتبه لوجودهم في الاتصالات التي تسبق الغارة. ففي سجلات المحادثة التي تضمنتها بعض التقييمات، بدا وكأن الجنود يلعبون لعبة فيديو، إذ عبّروا في إحدى المرات عن ابتهاجهم حين أُتيحت لهم فرصة إطلاق النيران على منطقة "مكتظة" على ما يبدو بمقاتلي داعش – من دون أن ينتبهوا إلى وجود أطفال بينهم.
أشار المتحدث العسكري النقيب اوربان إلى أنه "في الكثير من ظروف القتال التي يواجه فيها المستهدِفون سلسلة تهديدات موثوقة من دون وجود متسع من الوقت، يمكن أن تؤدي فوضى المعركة إلى اتخاذ قرارات تسفر للأسف عن إلحاق الضرر بالمدنيين".
ففي بعض الأحيان، كان يُعتمد على تسجيل فيديو مدته ثوانٍ قبل الغارة، وهو ما لم يكن كافياً لتقييم وجود المدنيين. كذلك فإن الفيديو المُصوَّر من الجو لا يُظهر الأشخاص داخل المباني أو تحت الأشجار أو تحت المظلات المصنوعة من الألومنيوم أو القماش المشمّع التي تحجب الشمس عن السيارات والدكاكين.
المصدر: نيويورك تايمز