منذ إعلان الولايات المتحدة نيتها في وضع العقوبات على روسيا بعيد العملية العسكرية التي بدأتها في أوكرانيا، والأوساط الاقتصادية والسياسية في العالم تبدي قلقها إزاء ما سيواجهه النظام الاقتصادي جراء تداعيات هذه العقوبات خاصة وأنها تستهدف دولة عملاقة لها تأثيرها القوي على الساحة الدولية.
المسؤولة السابقة في الخزانة ومجلس الأمن القومي الأمريكي جوليا فريدلاندر والتي تعد المسؤولة البارزة حاليا في مركز جيو- إيكونوميكس، تساءلت عن قدرة الغرب على تحمل تداعيات حربه المالية التي أعلنها ضد روسيا.
وفي مقال لها نشر في مجلة "بوليتيكو" قالت فريدلاندر أن "المحللين يراقبون كل صباح ومنذ الغزو الروسي لأوكرانيا أمرين وعلى التوالي، فعلى شاشة يراقبون تحرك الجيش الروسي باتجاه العاصمة كييف وعلى شاشة ثانية يراقبون وضع الروبل، العملة الروسية".
وذكر المقال ان "الولايات المتحدة قامت مع شركاؤها على مدى أسبوعين تاريخيين بفرض عقوبات صارمة على المؤسسات المالية الروسية بما فيها منعها من استخدام نظام الرسائل الدولي "سويفت"، وفرضت قيودا على دينها بل وفرضت عقوبات على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نفسه. وكل تحرك من هذه التحركات غير وضع "البقرة المقدسة" منذ ضم شبه جزيرة القرم والحرب في دونباس، وهو أنه يجب عدم المس بالمصارف الروسية الكبرى وكذا يجب عدم مس العقوبات بالدين في السوق الثانوي (التبادل في الدين الروسي بين كيانين غير روسيين) وعدم فرض عقوبات على بوتين، وهي إشارة معروفة عن رغبة الولايات المتحدة بتغيير النظام. وكان الهدف المعلن في عقوبات عام 2014 هو تغيير سلوك الكرملين وعدم المس بالاقتصاد الروسي بشكل أوسع. ولكن السياسة الآن تغيرت وتقوم على إفلاس البلد ودفع اقتصاده للانهيار التام".
وأشارت فريدلاندر الى ان "مجموعة الدول السبع أعلنت في الأسبوع الماضي أنها جمدت الاحتياطي الأجنبي الروسي المحفوظة داخل اختصاصها القانوني، مما قيد منفذ روسيا على 400 مليار دولار أي نسبة 60% من احتياطها الأجنبي. وكشفت العقوبات عن العزيمة غير المسبوقة لدى الحلفاء لتبني أكبر خيار مثير للضرر.
وفي يوم الثلاثاء أعلنت الولايات المتحدة أنها ستتوقف عن استيراد النفط الروسي، وهو تحرك رمزي ولكنه تصعيد سياسي آخر. وقابل قادة الغرب مناسبة الحرب التي اختارتها روسيا بإجراءات مالية قاسية بشكل تتقزم أمامها حملة "أقصى ضغط" في عهد دونالد ترامب. ولكن الرد الغربي لم يعد ضغطا ولكنه حرب مالية كمعارض لحملات العقوبات السابقة والتي كانت تهدف للضغط ودفع دولة بعد فترة إلى التفاوض أو دفعها لتغيير سلوكها. والهدف من هذه العقوبات على روسيا هو تغيير الاستراتيجية العسكرية التي تحدث الآن. وتتساءل: هل يمكن للضغط المالي التأثير على زعيم مصمم على الحرب وتغيير خططه الحربية، وهو قرار سنراقبه في الأيام، الأشهر والسنوات المقبلة؟ وهل تستطيع الولايات المتحدة وشركاؤها التسبب بضرر فادح على اقتصاد روسيا بشكل يجعل من الحرب غير محتملة؟ لا أحد لديه الجواب.
الفشل في وقف العدوان الروسي أو منع تداعياته على الاقتصاد العالمي، سيعطي صورة أن أشد العقوبات الأمريكية لن تؤثر على النتيجة العسكرية أو السياسية".
وأكملت المجلة في مقالها أنه "لم يحدث أن تم فرض العقوبات بهذه الطريقة كما في الوقت الحالي، وهي مقامرة برهانات عالية حول أمن أوروبا عبر الوسائل المالية والاقتصادية. والتحرك يعتبر مثيراً للغرابة لأن إدارة جو بايدن عبرت عن موقف متقيد من العقوبات عندما وصلت إلى السلطة. وفي النهاية ستثبت استراتيجية بايدن أنها عامل مهم أو فاشل لاستخدام المفاصل المالية والاقتصادية في الأمن القومي. والفشل في وقف العدوان الروسي أو منع تداعياته على الاقتصاد العالمي سيعطي صورة أن أشد العقوبات الأمريكية لن تؤثر على النتيجة العسكرية أو السياسية.
وربما كان على صناع السياسة الأمريكيين إعادة النظر في هذه الوسيلة التي احتلت دورا مركزيا في صناعة القرار الحكومي وربما تفقد شرعيتها لو فشلت المقامرة الحالية. ورغم حجم العقوبات على روسيا غير المسبوقة من ناحية النطاق أو سرعة التنفيذ إلا أن الحرب المالية الكاملة كانت قادمة. وتحدث عنها الممارسون لها بعبارات عسكرية "الحرب الاقتصادية" وأشاروا إلى الإجراءات المالية باستخدام مصطلحات عسكرية. فقد سمعنا كلمة "ترسانة" عقوبات وعقوبات "ردع" وحتى عقوبات "نووية"، بل أشير إليها بأنها "أهداف" وهي الطريقة التي تصف فيها حكومة الولايات من يعتقد أنهم محل للجزاء وهو ما يعطي صورة عن هدف تحت النيران.
وترى فريدلاندر أن "تقديم العقوبات من خلال لغة الحرب تعطي صناع القرار فرصة للتفاؤل حول ما يمكن تحققه بدلا من العمل العسكري. وبسبب هذا التوصيف فإنه يتم تصميم الآليات المالية لتحقيق نتائج سياسية أكثر مما تستطيع إنجازه. ولا يمكنك وقف الدبابات أو ناقلات النفط من خلال البنوك. ويمكن تسريع التغيير السياسي عبر العقوبات، مثل العقوبات التي ساعدت على نهاية نظام التمييز العنصري في جنوب إفريقيا أو الانفجار الاقتصادي للاتحاد السوفيتي، لكن هذا لم يحدث إلا بعد ضغوط استمرت عقودا. ولم يشعر أحد بالإحباط مثل مستشاري الرئيس دونالد ترامب في معاقبة إيران وفنزويلا...رغم وعود بايدن بعمل عكس ما عملته الإدارة السابقة، إلا أنه نقل العقوبات لمستويات غير مسبوقة في تاريخ الولايات المتحدة. ومزق بالتالي استراتيجية أقصى ضغط".
ويتناقض موقفه الحالي من العقوبات مع انتقاده لسلفه من اعتماده المفرط على العقوبات التي رأى أنها غير فعالية وتترك آثارا عكسية. ووعدت وزيرة الخزانة جانيت يلين، أثناء جلسة تأكيدها في الكونغرس بمراجعة للطريقة التي تم بها التعامل مع العقوبات في عهد الإدارة السابقة. والورقة التي نتجت عن النقاش تم إعدادها بحذر وافتقدت الجرأة ووعدت بالتنسيق مع الحلفاء والبحث في الكيفية التي يؤدي فيها استخدام العقوبات المفرط بإضعاف تفوق الدولار الأمريكي وتآكل الشرعية الأمريكية.
ولاحظ المراقبون أن هذا الموقف مرتبط بالتطورات العالمية، وجاءت أحداث القمع في بيلاروسيا ثم قمع العسكريين للمعارضة في ميانمار وأخيرا أوكرانيا، حيث تخلت الخزانة عن انضباطها. لكن روسيا وإيران وفنزويلا تشترك في نفس الملامح، فهي دول نفطية وتعتمد على إيداع موارد النفط في عملات صعبة بالبنوك المركزية، مما يعطي أمريكا نفوذا على الاحتياطي السيادي.
وتتابع فريدلاندر "...وماذا سيحدث الآن؟ فاستراتيجية العقوبات الغربية هي في سباق ضد ساعة أو ساعتين، ساعة مالية تتعلق بالمدة التي يحتاجها الغرب لتركيع الاقتصاد الروسي والثانية عسكرية، كم تحتاج القوات الروسية لهزيمة القوات الأوكرانية. وفي الأسابيع المقبلة يرى المراقبون أن روسيا ستواجه أزمة عملة حيث تستخدم كل ما تبقى لديها من مصادر، مع انخفاض عوائد الأسهم وتراجع النمو لمستويات تشبه الأزمة المالية التي عانت منها روسيا عام 1998 وهذه المرة لن يتدخل صندوق النقد الدولي".
ويشير المقال إلى ان "كل ما لدى خبراء الاقتصاد هو التكهن بما سيتركه انهيار دولة عضو في مجموعة العشرين على اقتصاد العالم. وربما زادت أسعار النفط لمستويات لا يمكن الحصول عليها ورغم الإفراج عن كميات من الاحتياط. كما سترتفع أسعار البضائع بشكل يزيد من دين الدول النامية التي تعتمد على روسيا وأوكرانيا، كل هذا بعد كوفيد".
وربما ظهرت عدوى الأزمة المالية والدين في مناطق لا يتوقعها أحد، بشكل يظهر تداخل وتبعية الاقتصاد العالمي. ويمكن أن يبدأ هذا في وسط آسيا حيث تعتمد اقتصادياتها على التمويل والتجارة الروسية وربما امتد إلى شمال إفريقيا وأوروبا حيث ستفلس شركات تابعة لكيانات تجارية روسية. وقالت إن أزمات الدين والتضخم والاحتياجات الإنسانية هي سبب للمواجهات، مثلما أدى عدم الاستقرار بألمانيا لصعود النازية وأحداث الشغب في مصر بالسبعينات من القرن الماضي بعد ارتفاع أسعار الخبز والأزمة الاقتصادية الأمريكية ما قبل الحرب. وليس مقدرا أن يحدث مثل هذا لكن الآثار الجانبية للاستراتيجية الحالية قد تكون أكبر مما نتوقع. وعندما تصمم استراتيجية لإنهاء حرب لا معنى لها، فأي خيار للتصعيد له مزاياه، ولكن لا شك الآن أن تجميد الاحتياطي الروسي ليس ضغطا ولكنه حرب مالية، ومن هنا فالرهانات عالية. ولو لم تؤد العقوبات بهذا المستوى لوقف الحرب فمن المفيد القول حينئذ إن العقوبات الأمريكية لها حدودها.
كما أن الدول التي تتعرض للعقوبات ستؤدي إلى تآكل السوق الغربي نظرا لأنه لم يعد خيارا آمنا لها، فهو السوق الذي يجمد أرصدتها، ولن يتأثر الدولار الأمريكي سريعا لأن اقتصاد العالم مرتبط به، لكن كما لاحظت استراتيجية الخزانة الأمريكية في البداية فقوته قد تتراجع مع مرور الوقت. ويمكن أن تؤدي سياسة العقوبات كأداة في الأمن القومي بشكل يبعد المنافسين الجيوسياسيين عن نظامها المالي ويحرمها من التأثير عليهم. وقررت أمريكا وشركاؤها المقامرة، وهذه من ثلاثة وجوه: الأول: يمكن أن تتسبب العقوبات بضرر كبير يدفع بوتين لسحب قواته أو التفاوض مع كييف بحسن نية. ثانيا وهي أن المنافع قد تتفوق على التداعيات السلبية وثالثا، المقامرة بالعقوبات للدفاع عن المبادئ وطرق الحياة- أي الديمقراطية ضد الاستبداد. والهدف الأكبر للعقوبات الاقتصادية وتريد تحقيقه بأقصر مدة هو منع العدوان العسكري، وحتى لو أدت لوقف مزيد من العدوان ضد أوروبا الشرقية وبعواقب إقليمية ودولية، فقد يقول البعض إن الرهان يستحق. لكن لو أدت العقوبات لإفقار روسيا واستمرار نظام بوتين غير المقيد وبثمن تدمير أوكرانيا فلن يتمكن أحد من الدفاع عن المقامرة، ولا يمكن للواحد معرفة كيف ستثق الحكومات بالعقوبات".
المصدر: بولتيكو
الكاتب: جوليا فريدلاندر