منذ سنوات يسعى حزب الله إلى تطوير قدراته الجوية في سياق المواجهة الشاملة مع كيان الاحتلال، ومثلت معركة إسناد غزة 2023/ 2024 لحظة مفصلية في هذا المسار. ففي الرابع والعشرين من يوليو/تموز، نشر الإعلام الحربي مقطعاً مصوراً التُقط بواسطة المسيّرة الاستطلاعية "الهدهد"، أظهر مشاهد دقيقة لقاعدة "رامات ديفيد" الجوية الإسرائيلية، وهي من أهم القواعد العسكرية في شمال فلسطين المحتلة. ما شكل تحولاً استراتيجياً أظهر حجم الاختراق الذي يمكن أن تحققه المسيّرات الصغيرة والذكية في قلب المنظومة العسكرية الإسرائيلية. ورغم أن الحرب التي أعقبت حرب الإسناد حملت معها أثقالاً قاسية من تضحيات ودمار ومعاناة لم يكن من السهل تجاوزها، إلا أن إنجاز "الهدهد" يبقى واحداً من العلامات الفارقة التي ينبغي أن نسلط الضوء عليها في ذكرى "أولي البأس".
مواصفات تقنية متقدمة
مسيّرة "الهدهد" التي استخدمها حزب الله في هذه العمليات من الطائرات الكهربائية العمودية الإقلاع والهبوط، ما يمنحها مرونة في الحركة دون الحاجة إلى مدرج. يبلغ طولها نحو 150 سنتيمتراً، وطول جناحيها 190 سنتيمتراً، وتعمل بثمانية محركات وثلاث مراوح في كل جناح. سرعتها القصوى تصل إلى 70 كيلومترا في الساعة، وتستطيع التحليق بين ساعة و90 دقيقة لمسافة تصل إلى 30 كيلومترا. الأهم من ذلك أنها تكاد لا تترك بصمة حرارية أو صوتية، ما يجعل رصدها عبر الرادارات أو أنظمة الاعتراض أمراً بالغ الصعوبة.
هذه المواصفات التقنية تجعل "الهدهد" أداة استطلاع مثالية. فهي مزودة بتقنيات تصوير فوتوغرافي متطورة وبقدرة على البث المباشر للصور. يمكنها تتبع تحركات القوات، تحديد مواقع المدفعية، وحتى الدخول على موجات الاتصالات. إضافة إلى ذلك، تستطيع مواصلة التحليق بأمان حتى في حال تعطّل أحد محركاتها، ما يزيد من موثوقيتها الميدانية. ويعود إنتاج الطائرة إلى إيران حيث أُعلن عنها رسمياً عام 2015 في جامعة الشريف للتكنولوجيا، ومنذ ذلك الحين جرى تطويرها في أكثر من ساحة إقليمية بينها لبنان.
دوافع الاستطلاع العميق
لكن السؤال الجوهري يبقى: لماذا أرسل حزب الله هذه المسيّرة إلى عمق الأراضي المحتلة؟ الجواب يتوزع على مستويين. الأول، عسكري بحت، يتمثل في بناء بنك أهداف متنوع يضم منشآت عسكرية واقتصادية وحيوية. المشاهد التي التقطتها "الهدهد" لم تقتصر على قاعدة جوية، بل شملت ميناء حيفا، خزانات النفط، المصافي، مصانع شركة "رافائيل" للصناعات العسكرية، مراكز القيادة والسيطرة، وحتى مواقع القبة الحديدية ومنظومة "مقلاع داوود". هذا التنوع يمنح حزب الله خيارات واسعة للتهديد في أي مواجهة ويكسبه معرفة أعمق بمواقع الاحتلال.
أما المستوى الثاني فهو سياسي – إعلامي. فبث المشاهد التي حصلت عليها الطائرة ضمن قوالب خاصة وعلى المنصات الرسمية لحزب الله بعث برسالة واضحة مفادها أن: المقاومة قادرة على الوصول إلى أكثر المواقع حساسية داخل "إسرائيل" في وقت يفرض فيه حالة من الاستنفار.
الأثر النفسي على الكيان
أكثر ما أزعج المؤسسة الأمنية الإسرائيلية أن "الهدهد" حلّقت وصورت لوقت طويل دون أن تتمكن الرادارات أو منظومات الاعتراض من رصدها وإسقاطها. هذا العجز أطلق نقاشاً داخلياً حول جدوى مليارات الدولارات التي استُثمرت في الدفاع الجوي والاستخبارات. الإعلام الإسرائيلي وصف الشريط حينها بأنه "الأكثر خطورة منذ بداية الحرب".
البعد النفسي هنا لا يقل أهمية عن البعد العسكري. فالمجتمع الإسرائيلي الذي اعتاد على فكرة التفوق الأمني المطلق وجد نفسه فجأة مكشوفاً أمام "الهدهد".
يمكن القول إن "الهدهد" تحولت لإنجاز نوعي في مسار حرب إسناد غزة. فنجاحها في اختراق العمق الإسرائيلي ورصد منشآت استراتيجية دون رصد أو اعتراض مثل نقلة نوعية. وأثبت حزب الله أن لديه القدرة على مراكمة عناصر قوة جديدة تُربك العدو. في سياق الحرب الأخيرة، شكّل هذا الإنجاز جزءاً من الاستراتيجية الأوسع للمقاومة: الجمع بين الصمود في الميدان والقدرة على استثمار التكنولوجيا.
أظهرت تجربة "الهدهد" أن الأثر المعنوي للتقنيات العسكرية لا يقل أهمية عن نتائجها الميدانية. فخلال معركة الإسناد، شكّل بث مقاطع هذه المسيّرة حدثاً ينتظره الناس بانتظام، حيث تحوّل الإعلام الحربي إلى نافذة لعرض ما يأتي به الهدهد من صور توثّق عجز الرادارات الإسرائيلية. هذا الترقب وما رافقه من تفاعل جماهيري ساهم في بناء رصيد من الثقة بقدرة المقاومة على المواصلة رغم شراسة الحرب ضدها.
الكاتب: غرفة التحرير