أنتج العقل الإستعماري الأميركي مفهوم "الفوضى الخلّاقة" في تعاطيه مع الدول والبلاد التي يودّ السيطرة عليها، وتعدّدت سيناريوهات تطبيق هذا المفهوم بتعدّد البلدان التي استهدفها، من سوريا إلى ليبيا، ومن اليمن إلى العراق، ومن مصر إلى لبنان، وإن حافظ على وجوه تشابه في أسلوب صناعة الفوضى واستخدامها بين بلد وآخر.
ثمة تشابه في سيناريو العمل الأميركي في كلّ من العراق ولبنان. ومن البديهي أن يكون هذا التشابه حاضرًا ومنطقيًا إذا انطلقنا من وجوه الشبه في التركيبات السياسية بين البلدين. إلّا أنّه هناك الكثير من التفاصيل التي تفرض على العقل الإستعماري المدبّر أن يعتمد خططًا مختلفة بناء على اختلافات كبيرة في الوضع المحلّي في كلّ من العراق ولبنان.
بالنسبة للنقاط التي تبدو فيها خطة الأميركي هي نفسها في البلدين، يمكن اختصارها في التالي:
- التدخل المباشر وانتهاك سيادة الدولة بشكل واضح وصريح.. فالسفيرة الأميركية في بيروت دوروثي شيا تخرج بتصريحات علنية حول تقييمها للوضع الداخلي، بل وتفاوض في الداخل والخارج حول مواضيع سيادية لبنانية. وكذلك في العراق، لا يتوانى السفير الأميركي ماثيو تولر عن التدخل والنقاش في كلّ تفصيل عراقي مع الجهات الحكومية متجاهلًا الحدود والأعراف الدبلوماسية.
- العمل عبر تغذية واستخدام ما يُسمى بجمعيات المجتمع المدني. فقد أقرّ ديڤيد هيل بأن بلاده موّلت "المجتمع المدني" في لبنان بمبلغ ١٠ مليار دولار أميركي. أما في العراق، فإن لم يكن هناك أرقام واضحة تبيّن حجم العلاقة بين الأميركيين و"المنظمات غير الحكومية"، إلّا أنّ ما يُسمى بالمساعدات الأميركية المالية للعراق لا تذهب جميعها إلى خزينة الدولة فجزء كبير منها يصب في الجمعيات والمؤسسات تحت عنوان "التنمية"، وحسب مجلة فورين بوليسي "تقدم واشنطن ما يقرب من نصف مليار دولار سنويًا في أشكال مختلفة من المساعدة الحاسمة للدفاع والتنمية العراقيين".
- محاولة عزل حركات المقاومة التي تتصدى للأميركيين وخططهم عن نسيجها الشعبي، والدفع باتجاه سلخ محيطها عنها. فكما يواجه حزب الله في لبنان القوّة الأميركية المتمثلة بأدوات سياسية واقتصادية مختلفة، يواجه الحشد الشعبي هذه القوة وإن بظروف مختلفة، وهذا ما يدفع الأميركيين في كلّ من لبنان والعراق لبذل كلّ جهد للتحريض ضد حزب الله والحشد.
- استخدام العلاقات التي تربط الشخصيات الرسمية والحكومية بالأميركيين وتحويلها إلى أداة ضدّ البلد. وهنا يطول الحديث في الأمثلة عن العلاقات التي نسجها الأميركي مع أطراف مؤثرة بنسب متفاوتة من داخل نسيج الدولة في كلّ من العراق ولبنان.
أمّا بالنسبة لوجوه الإختلاف بين الخطتين الأميركيتين في لبنان والعراق، فهي تكمن تحت عنوانين أساسيين متعلقين باختلاف جذري بين الحالتين اللبنانية والعراقية.
أوّلها مرتبط بالوجود العسكري الأميركي في العراق وما له من تأثير مباشر على السياسة العراقية الداخلية.. هذا الوجود يسهّل على الأميركيين حركتهم في الداخل العراقي على كلّ المستويات، أما العنوان الثاني فهو يكمن في العلاقة بين الحكومة العراقية والأميركيين والتي تمّت قوننتها، مع ما يؤمنه ذلك من حرية استخباراتية أميركية تطاول كلّ المجالات وتفرض على العراقيين شكلًا من التنسيق الرسمي معهم في ما يتعلق بالأمن وبالاقتصاد وبكلّ مفاصل الحياة السياسية.
كذلك يختلف السيناريو الأميركي في العراق عنه في لبنان بحكم الظروف الداخلية العراقية لا سيّما في ظلّ النشاط الإرهابي الذي تغطيه أميركا وتدعمه بأشكال مختلفة. ففي لبنان لم يتمكن الإرهاب من بناء بيئة حقيقية له، وجرى اجتثاث خلاياه قبل أن يتسع مداها حدّ التأثير في الواقع السياسي اليومي.
في العراق كما في لبنان، يستخدم الأميركي الفوضى التي صنعها بنفسه للسيطرة على البلاد، لكن فوضاه "الخلاقة" تلك اصطدمت في كلا البلدين بحركات تحررية مقاومة تواجهه بنديّة واستبسال، وهذا ما يضع الأميركيين اليوم في وضع مربك قد يجبرهم على تعديلات جذرية في خططهم، إذا ما استطاعوا إلى الإستمرار سبيلا.
هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة رأي الموقع
الكاتب: ليلى عماشا