في هذا المشهد المأزوم الذي يعيشه لبنان وتتشابك فيه ملفات الأمن والسيادة والهوية، يعود إلى الواجهة السؤال حول مَن يحمي المجتمعات حين تكون الدولة بأضعف مراحلها؟ ما جرى في الموصل وسنجار كان كافياً ليعيد صياغة هذا الاجابة على هذا السؤال، بعدما تُرك مكونات الدولة فريسة للتكفيريين. لم تحمِ القوانين الدولية الأيزيديين من المجازر، ولم تشفع لضحايا الموصل شعارات التعدد والانفتاح. وحدها الجغرافيا، مَن يملكها ومن يدافع عنها، هو من يحدد المصير.
هذا النموذج لا يُستحضر من باب المقارنة الطائفية، بل لتذكير من يتعامى عن الوقائع بأن التهديدات الوجودية حين تحضر لا تميّز بين طائفة وأخرى، ولا بين ولاء ومعارضة، ولن تجد أي طائفة نفسها بمنأى عن أي تهديد أمني مهما كان شكله، إسرائيلي كان أم تكفيري أو داخلي أيضاً. وكل تجربة سابقة في المنطقة تثبت أن المقايضة على الولاء مقابل الحماية لا تصنع أمناً، بل تؤسس للخذلان الجماعي، والشواهد كثيرة، لم تفارق شاشات التلفزة، ولم تُنحَّ عن مقدمات نشرات الأخبار بعد.
في لبنان، لا يختلف المشهد من حيث البنية الهشة، لكنه يختلف في الشكل: هنا، تُخاض المعارك باسم السيادة، لكنها تُوجّه ضد من يملك القدرة الفعلية على ردع الأخطار المحدقة، ليس بخطط نظرية أو نوايا يُعبّر عنها بالمحافل وجلسات التحليل السياسي، بل بتجربة عمرها أكثر من 40 عاماً على أقل تقدير، وعلى غير جبهة، أثبتت خلالها المقاومة قدرتها على فرض استقرار أمني بوجه المطامع الاسرائيلية تارة والخطر التكفيري تارة أخرى.
اليمين المسيحي أوما يمكن تسميته بالتيار الانعزالي، يقدم اليوم نموذجاً صارخاً لهذا الانفصال المشبوه عن الواقع، لا من موقع الدفاع عن مصالح الطائفة، بل بالعكس، من موقع من يناقضها ويعرضها لمخاطر إضافية، خدمة لأجندات خارجية.
ففي الوقت الذي تتصاعد فيه التهديدات الأمنية، وتستعر الحملات السياسية والدبلوماسية على المقاومة، تخرج من بعض تلك القوى مواقف تصل في بعض الأحيان إلى التلميح بتأييد الاعتداءات الإسرائيلية، أو التنظير لتفكيك البلد طائفياً عبر تسويق مشاريع "الحياد" أو الفدرلة، بينما تعيش قواعدهم تحت الضغط الأمني، كغيرهم من اللبنانيين. وللعلم أن قرى مسيحية ذات أغلبية غير مؤيدة للخط السياسي لحزب الله، منتشرة أيضاً في الجنوب في الخط الأمامي للمواجهة مع كيان الاحتلال، تماماً كتلك الموجودة أيضاً في الخطوط الأمامية لأي خطر تكفيري محتمل على الحدود اللبنانية السورية، وقد اختبرت بالفعل هذا الواقع ما بعد عام 2014.
حينها، وبينما كان أبناء بعض القرى المسيحية المحاذية للحدود السورية مهددين بالاجتياح كانت القيادات اليمينية مشغولة بالهجوم على الحزب، لا بتحصين الطائفة أو الدفاع عن مصالحها ولا بالمساعدة في فرض الأمن الأرض.
لا ينطلق هذا النقد من توصيف المسيحيين كأقلية بل من موقعهم كشركاء أساسيين في هذا البلد، وكمكون معنيّ، شأنه شأن الشيعة والسنة والدروز، بدفع الأخطار عن الأرض والناس، لا بالرهان على الخارج أو المراهنة على سقوط الداخل.
مع تزايد التصريحات الدولية المشبوهة، وآخرها ما ورد عن المبعوث الأميركي توم باراك حول "إعادة ضم لبنان إلى بلاد الشام"، تتكشّف نوايا بعض الدوائر الغربية في إعادة فتح الساحة اللبنانية ضمن مشروع تفكيك المنطقة. الواقع، أن هذه التصريحات لم تواجه بالرفض من بعض أوساط اليمين الانعزالي، وهنا نتكلم عن شريحة من المسؤولين ضمن هذه الدائرة لا عن المواطنين المسيحيين، قررت أن تخضع إلى مثل هذه التهديدات وتعتبر نفسها غير معنية. والواقع أن قيادات القوى المسيحية تلك، ستتحصن ببروجها العاجية او تجد لنفسها "one-way ticket" بينما تترك خلفها الهيكل يتحول بسرعة إلى حمام دم وذبح على الهوية.
يدرك اللبنانيون هذا الواقع أكثر من أي وقت مضى. وليس أدل على ذلك من استطلاع "الدولية للمعلومات" الذي أظهر أن 65.3% من المستطلعين أن الحل الأفضل للوضع في لبنان هو إلغاء الطائفية السياسية، وأن 75.3% رأوا أن اسرائيل عدواً أولّ وهذا يدل على اجتماع اللبنانيين في مواجهة العداء الخارجي. بينما لا يعتبر هؤلاء أن سلاح حزب الله هو سبب الأزمة بل يرونه تفصيلاً في مشهد الانهيار الأوسع. من ناحية أخرى، فإن الخطر ان أصبح واقعاً فعلياً، واستمرت هذه القيادات بخطابها دون أن تمتلك أي ورقة لمساعدة بيئها فإنها ستكون أمام مرحلة جديدة، تواجه فيها خطر التآكل الذاتي، بعد أن يتجه السواد الأعظم من مؤيديهم إلى خيارات سياسية أخرى، قد تكون مستقلة، في أي استحقاق انتخابي قادم. وان كانت تتفاخر اليوم بحجم تمثيلها السياسي في البرلمان أو الحكومة، قد تجد نفسها لاحقاً ونتيجة حقائق تراكمية، تستجدي أصواتاً لم يعد بامكان شرائها بعد أن وصل لبنان إلى حد الانهيار الكبير.
ما لم تتراجع القيادات الانعزالية عن رهانها على الفوضى، وتلتحق بحالة وعي وطني تتشكل في القواعد، فإنها ستدفع ثمناً سياسياً ومعنوياً، ليس لأن قاعدتهم الشعبية "أقلية"، بل لأن كل طائفة تتخلى عن مسؤوليتها في الدفاع عن البلد، تفقد قدرتها على التأثير في مصيره.