في السياسة الدولية، لا تُقاس الهزائم والانتصارات فقط بعدد الصواريخ التي سقطت أو المباني التي تهدمت أو الجنود الذين سقطوا. تُقاس أولاً وأساساً بالتحولات في ميزان القوى، وبتعرية الأساطير التي يقوم عليها الخطاب الإمبراطوري. في هذا السياق، لم تكن الجولة الأخيرة من المواجهة العسكرية بين إيران و"إسرائيل"، التي امتدت لـ12 يوماً، مجرد مواجهة عسكرية، بل كانت لحظة اختبار حقيقي لبنية القوة "الإسرائيلية"، ولسردية الهيمنة الأميركية التي طالما تباهت بقدرتها على كبح خصومها عند "الخطوط الحمراء".
الضربة الإيرانية: نهاية وهم "الردع الإسرائيلي"
حين تطلق إيران صلية صاروخية نحو بئر السبع، وتُوقّع بـ"الطلقة الأخيرة" على اتفاق وقف النار، فإننا لا نكون إزاء مجرد عمل عسكري، بل أمام إعلان واضح: لم تعد "إسرائيل" تحتكر زمام المبادرة، ولا تستطيع التحكم بإيقاع المعركة أو توقيت نهايتها. لسنوات، قامت الاستراتيجية "الإسرائيلية" على ما تسميه "الردع"، أي تحطيم أي قدرة لدى الخصم على المبادرة أو الردّ. لكن "الوعد الصادق 3"، الردّ الإيراني الموجّه بدقة، نسف هذه الاستراتيجية من أساسها.
لقد أجبر الإيرانيون الاحتلال على طلب وقف إطلاق النار عبر الأميركيين والقطريين، بعدما لمسوا أن كل طلقة إضافية قد تضع "تل أبيب" على حافة الانهيار، ليس عسكرياً فقط، بل اجتماعياً وسياسياً.
ترامب يوقف نتنياهو: الانقسام داخل المعسكر الإمبراطوري
واحدة من المفارقات التي تكشف عمق الأزمة في المشروع الإمبراطوري الغربي، أن رئيس أقوى دولة في العالم، أميركا، لم يكن يقف خلف حليفه "الإسرائيلي"، بل أمامه. بل أكثر من ذلك، ترامب نفسه – الذي يمثّل النسخة الأكثر فجاجة من الإمبريالية النيوليبرالية – كان هو من يصرخ في وجه نتنياهو: "أوقف الهجوم".
هذه ليست مجرد مكالمة متوترة، بل هي تمظهر لخلل بنيوي في "التحالف". "إسرائيل"، التي طالما اعتُبرت امتداداً مباشراً للذراع الأميركية في المنطقة، أصبحت عبئاً على هذه الذراع. لم تعد قراراتها محصّنة دولياً.
توازن الردع الجديد: حين ترسم طهران الخطوط الحمراء
"لا نية لدينا لمواصلة الحرب إذا توقفت إسرائيل عن هجومها غير القانوني"، بهذه العبارة اختصر المسؤول الإيراني عباس عراقجي الموقف. الرسالة واضحة: إيران لا تبحث عن حرب، لكنها تملك القدرة على خوضها وفرض نهايتها بشروطها.
في ميزان القوى، هذا هو التعريف الحرفي لـ"الردع المتبادل". إيران لم تكن الطرف الذي بدأ التصعيد، لكنها كانت الطرف الذي حدّده، وأداره، وأنهاه. ما يعنيه ذلك استراتيجياً هو أن الجمهورية الإسلامية باتت تمتلك قدرة مستقلة على الفعل، لا ترتبط بموافقة دولية، ولا تستند إلى ضوء أخضر من أي قوة عظمى. وهذه سابقة تقلب المعادلات في المنطقة كلها.
"إسرائيل" تتراجع: من الهجوم الوقائي إلى استجداء الهدوء
في الرواية الرسمية، كانت "إسرائيل" دائماً تسوّق ضرباتها باعتبارها "وقائية"، تحمل طابع "الدفاع الاستباقي". لكن الوقائع اليوم تقول إن "القيادة الإسرائيلية" كانت أقرب إلى موقع المُرتبك، المتردّد، الذي ينتظر قراراً أميركياً للسماح له بالردّ.
هذا التراجع في القدرة على اتخاذ القرار الاستراتيجي ليس سوى تعبير عن مأزق وجودي. كيان بنى أمنه على التفوق التكنولوجي والدعم الغربي، يواجه اليوم خصماً يراكم القدرات في الظل، ويبني توازناً خارج مؤسسات النظام الدولي التقليدي.
والأخطر من ذلك، أن المؤسسة "الأمنية الإسرائيلية" نفسها لم تعد تملك الثقة بفاعلية هجومها. هذا ما قاله اللواء توف ساميا حين شكّك في إمكانية تدمير البرنامج النووي الإيراني، معترفاً بأن وقف الحرب لم يكن انتصاراً بل "شراء سنوات قليلة من الهدوء بثمن باهظ".
"النظام باقٍ": هزيمة استراتيجية للغرب
حين يخرج وزير سابق في حكومة الاحتلال، مثل ليبرمان، ليقول إن العالم يدخل مرحلة "مفاوضات صعبة ومضنية مع نظام إيراني باقٍ"، فهذا إقرار صريح بأن هدف الحرب قد فشل. الهدف الحقيقي لم يكن تدمير مواقع، بل إضعاف النظام، وإحداث اختراق داخلي، أو على الأقل فرض تراجعات سياسية. لكن النتيجة كانت عكسية تماماً: النظام صمد، والشعب تضامن، والجيش الإيراني أثبت جاهزية نوعية، والقدرات الصاروخية كانت في أفضل حالاتها.
كل ذلك يعني، بلغة الاستراتيجيا، أن إيران لم تنجُ فقط من العدوان، بل خرجت أقوى. وهذه ليست عبارة عاطفية، بل وصف دقيق لمعادلة جديدة بدأت تتشكل في الإقليم.
ما بعد وقف النار: انتصار الوعي أم قنبلة الهاوية؟
واحدة من أكثر العبارات صراحةً جاءت من وسائل "إعلام إسرائيلية" قالت: "السلاح النووي خطير، لكن وعي الانتصار في نفوس الأعداء أخطر بكثير".
الاعتراف هنا يتجاوز الساحة العسكرية إلى الحقل النفسي. "إسرائيل"، التي قامت على أسطورة "الجيش الذي لا يُقهر"، تجد نفسها أمام مقاومة عربية وإسلامية بدأت تؤمن بإمكانية الانتصار، وتراكم إنجازات حقيقية.
وهذا ما يجعل من وقف إطلاق النار، رغم كونه إنقاذاً فورياً للحياة، لحظة خطيرة في الوعي "الإسرائيلي". إذ لم يعد التهديد الإيراني مجرد احتمال نووي، بل صار فكرة منتصرة، وصورة محفورة في عقول الفلسطينيين واللبنانيين واليمنيين وكل من يواجه المشروع الإسرائيلي.
من طهران إلى غزة: وحدات المعركة تتّحد
أحد أبرز تداعيات وقف إطلاق النار الإيراني "الإسرائيلي" هو انعكاسه على باقي الجبهات. فها هو يائير لابيد يقول: "حان الوقت لإنهاء الحرب في غزة". فيما تعلو أصوات تطالب بتوسيع الاتفاق ليشمل القطاع المحاصر.
ذلك ليس رأفة إنسانية مفاجئة، بل هو إدراك بأن الصمود الإيراني سيؤدي إلى تفعيل باقي ساحات المقاومة. فالربط بين غزة وطهران، لم يعد خطاباً دعائياً، بل أصبح من حقائق المعركة. وهنا مكمن "القلق الإسرائيلي" الحقيقي: أن تتوحد الساحات في وعيها وأدائها وشرعيتها.
من الهزيمة التقنية إلى الانهيار البنيوي
لا تكمن خطورة الهزيمة في عدد الصواريخ ولا في تصريحات الساسة، بل في انكشاف البنية التي تقوم عليها الأنظمة. و"إسرائيل"، التي قامت على احتكار العنف، باتت تواجه عنفًا نوعيًا.
إن ما جرى ليس مجرد وقف لإطلاق النار، بل إعلان عن مرحلة جديدة: مرحلة ما بعد الردع "الإسرائيلي"، وما بعد الهيمنة الأميركية غير المشروطة. إنها لحظة انهيار أسطورة، وصعود واقع جديد… قد لا يعجب الغرب، لكنه بات من حقائق المنطقة.
كاتب صحفي فلسطيني
بكالوريوس في الصحافة والإعلام
دكتوراه في الحقوق
mohammedwajeehal@gmail.com