لم يكن الإعلام اللبناني يوماً محايداً. فمنذ بدايات الحرب الأهلية، ارتبط أداؤه بخطوط التماس السياسية والطائفية، وتحوّلت مؤسساته إلى انعكاس مباشر للانقسام البنيوي في الدولة والمجتمع. في كل أزمة، تقدّم المؤسسات الاعلامية نفسها على وقع الانتماءات، لا القواعد المهنية. غير أن الحرب الاسرائيلية على غزة في التي بدأت في تشرين الأول/أكتوبر عام 2023، وما تلاها من فتح جبهة الاسناد في لبنان، وضعت الإعلام اللبناني أمام تحدٍّ مزدوج: كيف يغطّي حرباً معقّدة ومفتوحة، وسط استقطاب داخلي حاد، وانكشاف غير مسبوق على التمويل الخارجي؟
مع تصاعد وتيرة المواجهات في الجنوب اللبناني وتكثف الضربات الاسرائيلية على قطاع غزة، بدا الإعلام اللبناني كأنه يعيد إنتاج خطابه من حقب سابقة. إذ ظهرت فجوة واضحة بين المؤسسات التي تغلّب السردية المقاومة وتُعلي من شأن "المعركة الوجودية" مع العدو الإسرائيلي، وتلك التي تتبنّى خطاباً تفكيكياً يُركّز على الكلفة المحلية لأي اشتباك، دون ربطه بالسياق الأوسع للصراع.
الخطاب الإعلامي العام لم يتعامل مع الحرب بوصفها تطوراً استثنائياً يستدعي مقاربات دقيقة ومهنية، بل سرعان ما تم تكييفه ضمن الاصطفافات المألوفة. في العديد من النشرات والتقارير، سُمّي القصف الإسرائيلي بـ"الرد"، فيما صُنّف القصف على المستوطنات المحاذية على أنه "تصعيد"، بما يعكس خللاً في منطق التوصيف المهني. كما استُخدمت توصيفات مثل "تبادل القصف"، دون الإشارة إلى ميزان القوى والجهة التي بدأت العدوان.
في دراسات سابقة عن الإعلام اللبناني خلال الحروب، ظهر نمط متكرر: تغليب البعد العاطفي والتعبوي، أو الانكفاء الكامل باسم "الحياد"، مع قلّة نادرة من الجهات التي تلتزم مقاربة مهنية متوازنة. ما تغيّر في حرب 2023-2025 هو أنّ القنوات لم تكتفِ بالتغطية، بل دخلت في حالة تبرير متواصل لخطّها السياسي، والمزايدة والمبالغة في الهجوم على شريحة واسعة من اللبنانيين كما لم يفعل الناطق باسم العدو، والاعتماد على التعابير الانتقائية في عرض الوقائع، واستخدام اللغة كأداة موقف.
على سبيل المثال، شهدت بعض التغطيات استخداماً كثيفاً لمفردات مثل "مخاطر التهجير"، أو "تورّط لبنان في الحرب"، في تقارير تركّز بشكل حصري على مشاهد النزوح من الجنوب، دون الإشارة إلى الأسباب أو الخلفية السياسية والعسكرية. كما تم تجنّب استخدام مصطلحات مثل "احتلال" أو "عدوان"، في بعض المؤسسات، ما خلق سردية مُشوّشة لدى الجمهور المحلي والدولي.
في المقابل، اعتمدت تغطيات أخرى خطاباً يركّز على مقاومة الاحتلال باعتبارها رداً مشروعاً، واعتنت بتقديم معطيات ميدانية من الجنوب اللبناني وقطاع غزة، مسلّطة الضوء على استهداف المدنيين والبنية التحتية. هذا التباين لا يعكس فقط اختلافاً في زاوية عرض الأحداث، بل في التصوّر الأساسي لوظيفة الإعلام خلال النزاعات.
في السنوات الأخيرة، نشأت في لبنان مجموعة من المنصات الإعلامية المستقلة أو "البديلة"، والتي ادّعت الحياد المهني والانفصال عن التمويل السياسي التقليدي. بعض هذه المنصات أدّى دوراً فاعلاً في تغطية الحرب، خاصة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، من خلال توفير تقارير فورية، وخرائط تفاعلية، وتحليلات آنية للخطاب الرسمي والعسكري.
لكن هذا الإعلام البديل لم يكن بمنأى عن الاستقطاب ذاته. إذ أن تحليل محتوى لعينة من المنشورات على عدد من المنصات، سيظهر نتيجة الاصطفاف ذاته، والذي ارتقى أيضاً إلى مستوى التحريض وفبركة الاخبار لنشر الذعر. ما يعني أن الفجوة التي خلقها الإعلام التقليدي لم تُردم بالكامل، بل أُعيد إنتاجها بصيغ أكثر حداثة وأقل التزاماً بالمعايير التحريرية.
أحد التطورات اللافتة كان ارتفاع منسوب التفاعل الشعبي مع أداء وسائل الإعلام. فقد شهدت منصات التواصل حملات مقاطعة ضد بعض القنوات والمواقع، إثر ما اعتُبر "تغطية مُضلّلة" أو "تبييضاً للعدوان". على سبيل المثال، أطلق ناشطون حملات تدعو لإلغاء المتابعة، أو مقاطعة الإعلانات، عقب نشر تقارير تحمّل فصائل المقاومة مسؤولية التصعيد، دون إشارة إلى المجازر الاسرائيلية المرتكبة بحق المدنيين في لبنان وغزة.
وقد لوحظ، خاصة في الأسابيع الأولى من الحرب، أن المؤسسات التي تستخدم مصطلحات مثل "الطرفان المتنازعان"، و"تبادل إطلاق النار"، و"مقتل عناصر"، غالباً ما تتبنّى خطاباً يسعى لإخفاء الموقف السياسي تحت غطاء "المهنية".
في المقابل، المؤسسات التي استخدمت تعبيرات مثل "شهداء"، "عدوان"، و"مجازر"، عبّرت عن موقف سياسي واضح، لكنها كانت في معظم الأحيان منسجمة مع ما وثّقته منظمات حقوقية دولية ومنظمات حقوق الانسان أيضاً.
أحد الأسباب الجوهرية لهذا الانقسام هو التمويل. المؤسسات الإعلامية التي تعتمد في تمويلها على جهات خارجية، غالباً ما تتعرض لضغوط مباشرة أو غير مباشرة لضبط خطابها بما لا يتعارض مع مصالح الممولين. وقد رُصدت حالات جرى فيها حذف أو تعديل تقارير صحفية، أو منع استضافة محللين، تفادياً لإحراج طرف سياسي أو دولة داعمة. هذا الواقع يعيد طرح السؤال عن إمكانية وجود إعلام مستقل فعلياً في بيئة مشبعة بالتمويل السياسي.
لا يمكن للإعلام أن يكون محايداً بالكامل في لحظة اشتباك كبرى، لكنه ملزم بأن يكون مهنياً. أي أن يسعى إلى تقديم الرواية الدقيقة، المؤطرة بالسياق، والمبنية على معطيات قابلة للتحقق، دون الوقوع في فخ التهويل أو التعتيم أو الفتنة والتحريض. المطلوب ليس إعلاماً منزوع الانتماء، بل إعلاماً مسؤولاً.
إن المشهد الإعلامي اللبناني خلال الحرب كشف بوضوح أن الانحياز ليس خياراً، بل واقعاً يتجذّر في كل تقرير أو مصطلح. المعركة على الوعي لا تقل أهمية عن المعركة العسكرية، والإعلام هو أحد ساحاتها الرئيسية. وبالتالي، فإن مساءلة هذا الإعلام، وإنتاج بدائل أكثر مهنية والتصاقا بالحقيقة، هي خطوات أساسية لحماية الفضاء العام من التلاعب والتوظيف السياسي. اذ أن تكرار ما جرى في الحرب، وتطبيعه في أيام السلم كأن يصبح من الأدبيات السائدة، في بلد منقسم طائفياً وسياسياً بهذا الشكل الحاد، قد يفتح الباب أمام استغلال الفوضى في الشارع من قبل أي طرف خارجي، وهم كثر. في حين، هذا الاصلاح الضروري في هيكلية الاعلام اللبناني وأدبياته عليه أن يشمل السياسيين أيضاً، الذين يوفرون مادة دسمة لمثل هذه التجاوزات. ولا يمكن حصر هذا الأمر بالسياسيين اللبنانيين فقط، بل بسفراء الدول والمبعوثين الدوليين، وقد تكون نائب المبعوث الأميركي إلى الشرق الأوسط، على رأس اللائحة، والتي لم تجد حرجاً من شكر كيان الاحتلال "عدو لبنان" وفقاً للدستور، من مقر رئاسة الجمهورية اللبنانية في بعبدا.