تبدو الضربات الأميركية التي استهدفت اليمن في الأيام الأخيرة امتداداً لمنهجية جديدة–قديمة في إدارة الصراع، حيث اتخذت هذه الضربات طابعاً استباقياً عقب التهديد العلني الذي أطلقه السيد عبد الملك الحوثي باستهداف السفن الإسرائيلية والأميركية وتشديد الحصار على كيان الاحتلال. لم تنتظر واشنطن بدء العمليات اليمنية، بل سارعت إلى توجيه ضرباتها، وكأنها تحاول فرض إيقاعها على المعركة بدلاً من تركها تتطور وفق ما رسمته صنعاء.
لكن ما يجعل هذه الضربات مختلفة عن تلك التي سبقتها في عهد بايدن، هو طبيعتها وأهدافها. خلال المرحلة السابقة، كان الاستهداف الأميركي يركز على الجانب الاقتصادي، كضرب منشآت النفط والبنية التحتية، أو استهداف محدود لبعض المواقع العسكرية، كرسالة تحذيرية لا أكثر. أما اليوم، فيبدو أن واشنطن تحاول توسيع الاستهداف ليشمل مواقع قيادية، لتوجيه ضربات موجعة إلى رأس البنية القيادية لأنصار الله. هذه المقاربة تفترض أن الولايات المتحدة، ومعها بريطانيا وإسرائيل، قد راكمت خلال الأشهر الماضية بنك معلومات استخباراتي أوسع عن قدرات اليمن العسكرية وبنيته القيادية، مقارنة بالفترة التي سبقت السابع من أكتوبر، حين كانت المعلومات الاستخباراتية حول اليمن شحيحة، سواء بالنسبة للأميركيين أو للإسرائيليين.
لكن على الرغم من هذا التقدّم الاستخباراتي النسبي، فإن صنعاء لا تزال تملك عناصر قوة تجعل الضربات الأميركية أقل فاعلية مما تأمله واشنطن. واحدة من هذه العناصر هي منصات الصواريخ المتحركة، التي مكّنت اليمنيين من استهداف الأهداف البحرية في البحر الأحمر بكفاءة عالية، ومن دون أن تتمكن الولايات المتحدة من تدمير هذه المنصات بالكامل. المرونة التي تمنحها هذه المنصات لصنعاء تقلّل من أثر الضربات الجوية، إذ لا يمكن للاستخبارات الأميركية تتبّعها باستمرار أو القضاء عليها دفعة واحدة.
غير أن ما يجري اليوم لا يمكن فصله عن التحوّل السياسي الأميركي مع عودة ترامب إلى المشهد. الفارق بين نهج إدارتي بايدن وترامب ليس مجرد تكتيك، بل يمتد إلى الرؤية السياسية لكيفية حسم هذا الملف. إدارة بايدن كانت تفضّل سياسة الضغوط الاقتصادية مع ضربات عسكرية محدودة، حفاظاً على شكل من أشكال السيطرة المدروسة على الإقليم، من دون الانزلاق إلى مواجهات شاملة قد تؤدي إلى تداعيات غير محسوبة. أما ترامب، فقد اختار تصعيدا أكثر وضوحاً، يحمل بصمته التقليدية في التعامل مع الملفات المعقدة: توجيه الضربات العسكرية المباشرة، وفرض واقع جديد بالقوة، بدلاً من إضاعة الوقت في استراتيجيات الضغط غير المباشر.
هذا النهج يبدو أكثر وضوحاً عند قراءة تصريحات ترامب الأخيرة، التي حملت نبرة تهديد صريحة تجاه أنصار الله، وكأنها تعكس قراراً بتسريع وتيرة العمليات العسكرية لإنهاء التهديد اليمني قبل أن تتعقّد الأمور أكثر. في هذا السياق، يبرز احتمال تصعيد إضافي يتجاوز الضربات الجوية إلى دعم أميركي أكثر وضوحاً للتحرّكات البرّية، سواء من خلال الغطاء الجوي المكثّف أو عبر تحريك الميليشيات، التابعة "للشرعية"، لمحاولة استنزاف حركة أنصار الله عسكرياً على الأرض. هذا السيناريو، إن تم تنفيذه، سيكون بمثابة اختبار جديد لقدرة واشنطن على فرض حلولها بالقوة، رغم أن التجارب السابقة لم تقدّم أي مؤشر على نجاح مثل هذه المقاربات، سواء في اليمن أو في غزة أو لبنان.
إدارة ترامب تدرك أن أي مواجهة عسكرية، مهما كانت طبيعتها، لن تكون طريقاً مضموناً لحسم الصراع، لكنها تتصرف وفق حسابات تتجاوز الميدان اليمني نفسه. فالضربات الأميركية ليست مجرد ردّ على تهديدات صنعاء، بل تأتي أيضاً في سياق أوسع يتعلق بإعادة ترتيب الأولويات الأميركية في الشرق الأوسط، خصوصاً بعد تعقّد الأوضاع في غزة وفشل إسرائيل في تحقيق انتصار سريع. هنا، تصبح الضربات على اليمن جزءاً من استعراض القوة الذي تحاول واشنطن من خلاله إعادة ضبط توازنات المنطقة، وطمأنة حلفائها بأنها لا تزال قادرة على السيطرة على المشهد، حتى لو كان ذلك عبر عمليات تصعيدية قد لا تؤدي إلى حسم حقيقي.
على الرغم من كل ذلك، فإن الحقائق على الأرض لا تزال تفرض نفسها: الحصار على إسرائيل لم يُكسر، والسفن لا تزال تتجنّب البحر الأحمر، وإسرائيل لم تجد حتى الآن مخرجاً آمناً يعيد إليها حرية الملاحة التي كانت تتمتع بها قبل تشرين الأول/ أكتوبر. في هذا السياق، يبدو التصعيد الأميركي أقرب إلى محاولة لتعويض العجز الإسرائيلي منه إلى كونه استراتيجية ناجحة بذاتها. فالتجربة أثبتت أن الضربات الجوية، مهما كانت مكثّفة، لم تتمكن من إنهاء حضور أنصار الله أو منعهم من توجيه ضربات جديدة. وبالتالي، فإن الخيارات المطروحة أمام واشنطن تظل محدودة، مهما بدت خطواتها الحالية حاسمة.
الولايات المتحدة تدخل اليوم في معركة استباقية قد تكون أكبر من تقديراتها الأولية. فهي، بقرارها توجيه ضربات مباشرة، تكون قد نقلت المواجهة إلى مستوى أكثر تعقيداً، حيث لم يعد بإمكانها الاكتفاء بالرسائل التحذيرية، بل باتت مضطرة إلى تحمل تبعات التصعيد الذي بدأته. في هذا الإطار، سيكون من الضروري مراقبة طبيعة الردّ اليمني، وما إذا كان سيتجاوز نطاق البحر الأحمر إلى استهداف مواقع أميركية أبعد، وهو أمر قد يغيّر قواعد الاشتباك بالكامل. في جميع الأحوال، فإن ما بدأ كضربات استباقية قد يتحوّل قريباً إلى مواجهة لا تملك واشنطن وحدها قرار التحكم بمسارها ونهايتها.