ما تزال الساحة السورية ساحة المفاجآت والتحولات؛ فما بعد سقوط النظام والاحتضان الدولي والإقليمي للرئاسة الجديدة، ومجازر الإبادة في مناطق الأقليات على الساحل السوري، جاءت خطوة الاتفاق بين قسد "الكردية" المدعومة من واشنطن، وإدارة الدولة السورية الجديدة.
وقّع الطرفان اتفاقًا يقضي "بدمج" كافة المؤسسات المدنية والعسكرية التابعة للإدارة الذاتية الكردية في شمال شرق سوريا ضمن إدارة الدولة السورية بما فيها المعابر الحدودية والمطار وحقول النفط والغاز. وصف المتحدث باسم قسد، فرهاد الشامي، الاتفاق بأنه "مبدئي"، وقد تم بوساطة أميركية، مشيرًا إلى أن "الأميركيين" طرف أساسي في الاتفاقية. الاتفاق من ضمن المفاجآت لأن الرئيس السوري الجديد سبق أن رفض الطرح، والاتفاق يضمن للكردي لاحتفاظ بالسلاح كفصيل داخل الجيش السوري.
بعدما رفضت الإدارة سابقًا الاتفاق مع قائد قسد، مظلوم عبدي، حصل الاتفاق مباشرة بعد المجازر التي حصلت بحق الأقليات العلوية في مناطق الساحل السوري على مدى أيام، التي وثقتها الفيديوهات التي حملّها عناصر الجماعات الإرهابية على مواقع التواصل الاجتماعي، مباهاةً واحتفالًا. التوقيت يفيد وجود صلة بين الاتفاق والمجازر، وقد تكون الأحداث شكّلت الفرصة المثالية لواشنطن للضغط على الإدارة السورية وعلى تركيا لإعادة ضبط المسار والحفاظ على الغطاء الأميركي والدولي والإقليمي للسلطة الجديدة. السؤال هل استدرجت السلطة الجديدة لهذه الأحداث، وكانت بفعل جماعات خارجة عن السيطرة أو كانت خطوة مقصودة؟ ومهما كانت الإجابة، أدت النتيجة إلى مسار جديد، الأرجح أن كلًّا من التركي والسوري ما كان يريده أو ليقبل به طوعًا، وأقله في هذه المرحلة المبكرة.
وعليه، الأغلب أن الاتفاق تم في سياق ابتزاز أميركي تحت ضغط الجرائم. بالنسبة للإدارة الجديدة، هناك مصلحة لفوائد تعود على الإدارة الجديدة في حال التنسيق حول موضوع الموارد الزراعية والنفط والغاز في المناطق الشمالية الشرقية الخاضعة لسيطرة قسد، وأبرزها الحسكة ودير الزور والرقة، وما توفره من تمويل وإيرادات للحكومة. بيد أن هذه الفوائد وإن كانت مطلوبة من قبل السلطة الجديدة إلا أن الاتفاقية لا تحسمها، والدافع السوري للاتفاق يغلب عليه الحاجة إلى حرف الأنظار عن المجازر وإعادة تلميع صورة السلطة الجديدة، والحفاظ على الدعم الغربي والأميركي.
الاتفاق في ميزان المصالح التركية
شكّلت أحداث الساحل السوري من حراك مسلح وتداعياته وتوقيع الاتفاقية خطرًا على المصالح التركية في سوريا. لقد عكست المجريات التنافس الإماراتي التركي، والخلاف الخليجي مع "السياسة الإخوانية"، وأظهرت سياسة واشنطن في كبح النفوذ التركي في سوريا. أزعج الاتفاق تركيا لأنه رجّح الانصياع للقرار الأميركي على حساب المصالح التركية، فقد وافق "الشرع" على اتفاق مع الأكراد يعزز من دور قسد، ويعدّ تهديدًا مباشرًا لمصالح تركيا في سوريا، الطامحة إلى أن تصبح أكبر قوة في منتدى غاز المتوسط تتحكم بممرات الغاز، خاصة في ظل مشكلة صراع اوروبا مع روسيا، عبر استثمار المنطقة الاقتصادية الخالصة التي تصل مياه سوريا في البحر المتوسط، وتصل الى ليبيا ومياه اليونان وقبرص. وهنا لا بد من الالتفات الى الرؤية التركية العقائدية في استعادة الخلافة العثمانية عام 2024 بعد قرن من سقوطها عام 1924، وما يترتب على ضوئها من استعادة للممرات البحرية الدولية بعد انتهاء اتفاقيات ومعاهدات سيفر وغيرها. الاتفاق وجّه ضربة لطموح تمدد العمق الاستراتيجي التركي في الاقتصاد والغاز والقواعد العسكرية إلى سوريا، ولاحقًا ربما لبنان والعراق، كما يُضعف الذريعة التركية للتدخل العسكري، ويُساهم في منع إقامة منطقة نفوذ تركية دائمة شمال البلاد.
وفي سياق السياسة التركية البراغماتية في تقليل الخسائر وتأجيل أي تهديد مباشر لمصالح تركيا الاستراتيجية في سوريا، قامت أنقرة بالالتفاف على تداعيات الاتفاق، واستثمرت نداء زعيم حزب العمال الكردستاني، عبد الله أوجلان، في تخفيف وطأة التوافق الكردي مع الإدارة السورية الجديدة. فقد دعا أوجلان في السابع والعشرين من شباط، إلى حل الحزب الانفصالي و"إلقاء كل المجموعات السلاح"، ووقف عملياته ضد تركيا، بناء على قراءة جديدة للمستجدات وضرورة التوجه نحو العمل السياسي. هكذا، تجنب الرئيس أردوغان مخاوف الانزلاق إلى مواجهة أزمتين داخل البلاد: أزمة الأكراد القديمة وأزمة العلويين المستجدة في ظل هاجس انتقال الأخيرة من الساحل السوري إلى الداخل التركي بعد مجازر الإبادة التي حصلت بالطائفة العلوية، خاصة وأن تركيا تضم حوالي 25 مليون علوي.
ختاماً، الاتفاق أضعف أوراق التفاوض التركية مع الإدارة الأميركية الداعم الأبرز لقسد، لأن "الشرع" أعاد إحياء المشاريع الانفصالية بهذه الاتفاقية، وحجّم ذرائع التدخل العسكري التركي في سوريا، وقلّص النفوذ التركي في وقت تتنامى فيه المشاريع الإماراتية والخليجية وترتفع أرجحية احتمالات الصراع على تقاسم السلطة والنفوذ في سوريا؛ ما وضع أنقرة في موقف صعب من التناحر والاتجاه الصدامي.
الكاتب: غرفة التحرير