السبت 08 آذار , 2025 12:34

إلغاء اتفاق وقف إطلاق النار: التداعيات القانونية وامكانية المقاضاة الدولية

المحكمة الدولية ودبابة وجندي إسرائيلي

منذ صدور قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1701 في عام 2006، الذي نصّ على وقف الأعمال الحربية بين لبنان وإسرائيل، واصلت إسرائيل انتهاك هذا القرار من خلال خروقات متكررة للسيادة اللبنانية، سواء عبر الطلعات الجوية أو تجاوز الحدود المرسومة بالخط الازرق، او اختراق منظومة الاتصالات وغيرها من الخروقات تحت ذريعة "الدفاع عن النفس".  ومع الحرب الاخيرة التي شنتها اسرائيل على لبنان في 27 ايلول 2024، واستهدفت فيها قادة ومقاومين ومدنيين ولم توفر لا بنى تحتية ولا منشآت مدنية، ولا مؤسسات صحية، ومراكز للدفاع المدني، ولا المستشفيات ولا مراكز إيواء للنازحين قسراً هرباً من القصف الاسرائيلي على القرى والمدن والاحياء السكنية. إضافة إلى ذلك لم تلتزم بإعلان وقف الاعمال الحربية الموقع في 27 تشرين الثاني 2024، واستمرت في عدوانها على لبنان واستهدافها للمدنيين، والمنشآت المدنية. ومع طلبها لتمديد الهدنة مرتين، ارتكبت إسرائيل انتهاكات خطيرة أدت إلى استهداف المدنيين وتدمير البنية التحتية المدنية، تحت ذريعة أنها تستهدف منشآت عسكرية تابعة لحزب الله.

وبناءً على ذلك، ووفقًا لما تقدّم، فإن من حق الدولة اللبنانية رفع شكوى ضد إسرائيل وتحميلها المسؤولية الدولية الكاملة عن الخروقات والانتهاكات التي تسببت في جرائم ترقى إلى تصنيفها كجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، تستوجب المحاسبة والعقاب لقوات جيش الاحتلال الإسرائيلي. كما أن إصرار إسرائيل، بعد انتهاء مهلة انسحابها من الأراضي اللبنانية إثر توقيع إعلان وقف الأعمال الحربية في تشرين الثاني 2024، على الاحتفاظ بما أسمته "النقاط الخمس الاستراتيجية" تحت غطاء حماية أمن حدودها مع لبنان، يشكل خرقًا واضحًا للإعلان المذكور، ولقرار 1701 ولكافة القوانين الدولية. ويعدّ هذا الأمر احتلالًا للأراضي اللبنانية، مما يمنح لبنان، بمؤسساته السياسية والعسكرية والأمنية، الحق الكامل في الدفاع عن نفسه وأراضيه، ومواجهة هذا الاحتلال الجديد بكل الوسائل المشروعة.

إنّ الاعلان الاخير لوقف الاعمال الحربية في 2024 هو تأكيد جديد على وجوب الالتزام بالقرار 1701 الصادر في 2006. من هنا يعتبر القرار 1701 المرجعية الشرعية لإعلان وقف الاعمال العسكرية الجديد. لا يزال هذا القرار مرجعاً دولياً لوقف إطلاق النار، وقد استطاع المفاوض اللبناني المحافظة عليه من دون زيادة أو نقصان. ولكن بالمقابل لم تلتزم به اسرائيل التي ما انفكت تخترقه في كل زمان ومكان.

وعليه، تلجأ الدولة اللبنانية إلى العدالة الدولية بهدف الضغط على إسرائيل للتراجع عن سلوكها العدواني ونواياها الاحتلالية، ولتثبيت حقوق لبنان الشرعية في الدفاع عن أراضيه وحدوده، وحماية أمن شعبه في الجنوب وفي كافة المناطق اللبنانية من أي عدوان قد ترتكبه إسرائيل.

في الحرب الاخيرة استخدمت اسرائيل كل الوسائل غير المشروعة لضرب لبنان من خلال استهداف البنى التحتية والمدنية في الجنوب والبقاع وبيروت، ومن خلال استهداف المدنيين تحت ذريعة الدفاع الشرعي عن النفس، وهي لا تزال الى حد الآن تحتل اراضي لبنانية وتعمل على جرفها وبناء سواتر واحتلال مواقع واعتبارها نقاط استراتيجية للأمن والرصد والمراقبة، وهو ما يعد انتهاكاً واضحاً لقرار الامم المتحدة 1701 ولكل القرارات الدولية.

تحت وقع الضغوط الدولية، وافق لبنان الرسمي على وقف الاعمال الحربية، وبالهدنة المؤقتة الأولى والثانية، وقبل بهذا الاتفاق الذي على الرغم من الإشكاليات والمخاطر العديدة المرتبطة ببنوده، في حين استمرت إسرائيل في انتهاكه وارتكاب المجازر في حق المدنيين العزل، إضافة إلى مماطلتها في الانسحاب وفق الاتفاق من الأراضي اللبنانية إلى ما بعد الخط الازرق، وإصرارها على الاحتفاظ بنقاط عسكرية استراتيجية خمس على الأراضي اللبنانية. على الرغم من كل الثغرات والنقائص في هذا الاتفاق، وأمام الضغوط الأمريكية والدولية على لبنان الرسمي حتى يقبل بهذا الواقع الجديد، كمخرج مبدئي من أتون الحرب العدوانية التي قادتها اسرائيل، إلا أنه من الضروري التأكيد على نقطة مهمة وهي أنه:

أمام قبول لبنان -تحت الضغوط الدولية- والتزامه بإعلان وقف الأعمال الحربية المؤقت ارتباطا بأنه يعد جزءاًَ من قرار الامم المتحدة 1701، مقابل عدم التزام إسرائيل به، واستمرارها في العدوان على لبنان بتغطية أمريكية وأوروبية: نحن أمام صيغة إكراهية بالمعنى القانوني يمكن للبنان المطالبة بمعالجتها.

المبنى القانوني:

إذا وقّعت دولة على اتفاق دولي بالإكراه، فيمكنها الطعن في شرعيته قانونياً استناداً إلى قواعد القانون الدولي، وخاصة اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات لعام 1969، التي تحدد الظروف التي يمكن فيها إبطال أو إنهاء المعاهدات. هناك عدة طرق قانونية يمكن للدولة استخدامها لتحدي الاتفاقية:

الادعاء بالإكراه (المادة 52 من اتفاقية فيينا)

تنص المادة 52 من اتفاقية فيينا على أن "تكون المعاهدة باطلة إذا تم التوصل إلى إبرامها بطريق التهديد بالقوة أو باستخدامها بالمخالفة لمبادئ القانون الدولي المجسدة في ميثاق الأمم المتحدة."

- إذا كانت الدولة قد وقّعت على الاتفاقية نتيجة تهديد عسكري أو التهديد الدائم بالإبادة كما فعلت اسرائيل (تهديد لبنان بإرجاعه الى العصر الحجري)، أو اقتصادي خطير (حصار، قطع المساعدات) يخالف ميثاق الأمم المتحدة، يمكنها الاحتجاج ببطلان الاتفاق.

- يجب عليها تقديم أدلة تثبت أن التهديد كان فعلياً وجعلها توقع تحت الضغط.

الادعاء بعدم المشروعية بموجب مبدأ "البطلان المطلق"

- إذا كان الاتفاق ينتهك قاعدة آمرة من قواعد القانون الدولي (Jus Cogens)، وهي القواعد التي لا يجوز مخالفتها (مثل حظر الإبادة الجماعية، الاحتلال، العبودية، العدوان، التدخل في شؤون الداخلية للدول)، يمكن للدولة أن تحتج ببطلانه المطلق.

مثال: إذا أجبر لبنان على التنازل عن جزء من أراضيه بالقوة والتهديد الدائم، مقابل بقاء جيش الاحتلال الاسرائيلي وسيطرته على بعض النقاط الاستراتيجية، يمكنه الطعن ببطلان الاتفاقية.

من هنا تطرح الاشكالية التالية: كيف يمكن للبنان مواجهة الانتهاكات الإسرائيلية بعد انتهاء مهلة انسحاب الجيش الإسرائيلي من الأراضي اللبنانية؟ وما هو تصنيفها القانوني؟

أولًا: التصنيف القانوني للانتهاكات الإسرائيلية

إذا استمرت إسرائيل في تنفيذ عمليات عسكرية أو انتهاكات لسيادة لبنان بعد انتهاء المهلة المحددة لانسحابها، فيمكن تصنيف هذه الانتهاكات قانونياً ضمن الإطارات التالية:

عدوان (Aggression)

- وفقًا للمادة 2(4) من ميثاق الأمم المتحدة، يُعتبر أي استخدام للقوة ضد وحدة أراضي دولة أخرى أو سيادتها عملاً عدوانياً.

- قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 3314 (1974) يعرّف العدوان بأنه استخدام القوة العسكرية من قبل دولة ضد أخرى دون مبرر قانوني.

- إذا استمرت إسرائيل في التعدي على الأراضي اللبنانية، فقد يُصنّف ذلك على أنه عمل عدواني يستوجب إجراءات دولية.

احتلال غير شرعي (Illegal Occupation)

- في حال لم تنسحب إسرائيل كلياً من الأراضي اللبنانية، وبقاءها على الاراضي اللبنانية بحجة الدفاع الشرعي عن النفسي إما بالتمسك بحرية التحرك في لبنان براً وجواً وبحراً، أو بالتمركز فيما يسمى بالنقاط الاستراتيجية على الأراضي اللبنانية، فسيُعتبر ذلك احتلالًا غير شرعي بموجب اتفاقية لاهاي لعام 1907 واتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949.

تذكير: قرار مجلس الأمن 1701(2006) دعا إسرائيل للانسحاب الفوري من لبنان، وأي استمرار للوجود العسكري يمكن أن يكون انتهاكاً لهذا القرار. إنّ القرار 1701 يوجب التطبيق المتبادل، وهذا يعني أنّ الاطراف المتنازعة عليها الالتزام بشروطه، واذا تقاعس أحد الطرفين على التنفيذ أو ارتكب خروقات (كما يفعل جيش العدو الاسرائيلي)، يصبح من حق الطرف الآخر أي لبنان (ممثلاً في المقاومة والجيش) أن يستنكف عن تطبيق الالتزام.

انتهاك السيادة اللبنانية

- أي خرق للحدود، اختراق جوي أو بحري أو بري، عمليات اغتيال، أو اعتداءات عسكرية داخل لبنان يُعدّ انتهاكاً مباشراً لسيادة الدولة اللبنانية، وهو مخالف للقانون الدولي العام.

جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية

- إذا ارتكبت إسرائيل عمليات قتل خارج نطاق القانون، أو قصفاً عشوائياً للمدنيين، أو تدميراً للبنية التحتية بدون مبرر عسكري، يندرج ذلك تحت جرائم الحرب بموجب نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية (ICC).

- الاستهداف المتعمد للبنية التحتية أو المدنيين يشكل جريمة ضد الإنسانية وفقًا للمادة 7 من نظام روما الأساسي.

ثانيًا: آليات مواجهة الانتهاكات الإسرائيلية

 اللجوء إلى مجلس الأمن الدولي

- يمكن للبنان تقديم شكوى رسمية إلى مجلس الأمن وفقاً للفصل السادس من ميثاق الأمم المتحدة، والمطالبة بقرار يدين الانتهاكات ويطلب تدابير ضد إسرائيل.

- في حال استمرار العدوان، يمكن المطالبة بتفعيل الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة لفرض عقوبات أو إجراءات عسكرية لوقف الانتهاكات.

 تقديم دعوى أمام محكمة العدل الدولية (ICJ)

يمكن للبنان رفع قضية ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية بشأن انتهاك سيادته واحتلاله غير القانوني، إذا كان هناك أساس قانوني قوي.

 اللجوء إلى المحكمة الجنائية الدولية (ICC)

إذا تضمنت الانتهاكات جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية، يمكن تقديم شكوى إلى المدعي العام للمحكمة

إمكانية تفويض دولة اخرى (صديقة أو حليفة) للقيام برفع الدعوى

يمكن للبنان اللجوء إلى دولة أخرى لتتولى رفع الشكوى نيابة عنه أمام محكمة العدل الدولية (ICJ)، وذلك لعدة أسباب، منها تجنب العراقيل القانونية التي قد تواجهها، أو لضمان دعم أقوى من دولة ذات نفوذ وتأثير دولي.

هناك طريقتان رئيسيتان يمكن للبنان اتباعهما لرفع قضيته عبر دولة أخرى:

1- أن تتبنى دولة أخرى القضية بنفسها وتقدمها إلى المحكمة

- يمكن للبنان أن يتواصل مع دولة صديقة أو حليفة توافق على تقديم القضية باسمها، بحيث تصبح المدعية الرسمية أمام محكمة العدل الدولية.

- في هذه الحالة، يجب أن يكون للدولة المدعية مصلحة قانونية مباشرة أو غير مباشرة فالقضية (مثل الدول العربية أو الإسلامية أو الدول المعنية بالقانون الدولي).

- من الدول التي يمكن أن تتولى ذلك: الجزائر، جنوب إفريقيا، فنزويلا، تركيا، أو أي دولة أخرى تدعم القضية اللبنانية سياسياً وقانونياً.

2- أن يقوم لبنان بتفويض دولة أخرى لتمثيله أمام المحكمة

- وفقًا للممارسات الدولية، يمكن للبنان منح تفويض رسمي لدولة أخرى لتقديم القضية نيابة عنه.

- يتم ذلك عبر اتفاق دبلوماسي رسمي أو مذكرة تفاهم بين البلدين، يتم بموجبها تخويل الدولة الصديقة التمثيل القانوني للبنان في محكمة العدل الدولية.

القيام بإجراءات للدولة الصديقة:

1- إعداد وثيقة رسمية للتفويض

- يجب أن تصدر الحكومة اللبنانية مرسوماً رسمياً أو قراراً حكومياً يحدد فيه أن الدولة (X) مخولة برفع القضية نيابة عن لبنان أمام محكمة العدل الدولية.

- يجب أن تتضمن الوثيقة نطاق التفويض، والأسباب القانونية، والمطالب اللبنانية.

2- إبرام اتفاق دبلوماسي مع الدولة التي ستتولى القضية

- يمكن أن يتم ذلك عبر مذكرة تفاهم أو اتفاقية رسمية بين لبنان والدولة الموكلة، تتضمن تفاصيل تمثيل لبنان في القضية.

3- إبلاغ محكمة العدل الدولية

- بعد تحديد الدولة التي سترفع الدعوى، يجب إرسال إخطار رسمي إلى مسجل محكمة العدل الدولية لإعلامه بأن الدولة (X) تقدم الشكوى نيابة عن لبنان.

4- التنسيق القانوني مع الدولة الموكلة

- يتم التنسيق بين الفرق القانونية اللبنانية والفريق القانوني للدولة المدعية لضمان تضمين كل الأدلة القانونية، والوثائق، والشهادات الداعمة للقضية.

ملاحظة: هناك سوابق لدول رفعت قضايا نيابة عن دول أخرى:

- غانا ضد ساحل العاج (قضية الحدود البحرية 2017)، حيث تبنت دولة قضية نيابة عن دولة أخرى.

- جنوب إفريقيا ضد إسرائيل (2024) أمام محكمة العدل الدولية بشأن الإبادة الجماعية في غزة، حيث تبنت جنوب إفريقيا القضية ضد إسرائيل لدعم الفلسطينيين.

خلاصة القول هنا:

- يمكن للبنان تفويض دولة أخرى لرفع قضيته ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية.

- يجب أن يكون ذلك عبر اتفاق رسمي أو تفويض دبلوماسي موثق.

- الدول التي قد تكون مرشحة للقيام بذلك تشمل الجزائر، جنوب إفريقيا، فنزويلا، مثلا نظراً لمواقفها الداعمة للقضايا العربية والدولية العادلة.

- الإجراءات تتطلب مرسوماً رسمياً، اتفاقية دبلوماسية، وإخطاراً رسمياً لمحكمة العدل الدولية.





روزنامة المحور