يعرف كيان الاحتلال منذ قيامه بتبنيه مسار التضليل والخداع والكذب للعب على الرأي العام والضغط النفسي والمعنوي، حتى بات كل ما ينطق عن لسان قادته والمنظومة الاعلامية التابعة له يحتاج لتدقيق لمعرفة الحقيقة. في حين كان الاسلوب المعتمد خلال معركة طوفان الاقصى وطيلة العدوان الاسرائيلي على غزة ولبنان هو محاولة بناء نوع من "المصداقية" لاختراق الوعي ومحاولة التأثير عليه.
منذ اندلاع حرب طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول 2023، استطاع هؤلاء القادة -عموماً- أن يحافظوا على ثبات الرأي وتكرار الهدف، والتصميم على تحقيقه. برز هذا الثبات من خلال:
-عدم التخلّي عن الأهداف التي أعلنها هؤلاء منذ أكثر من سنة (بمعزل عن تحقيقها أو عدم تحقيقها) الهدف الأول كان عودة الأسرى (الذريعة الأهم لاستمرار الحرب).
-الإصرار على تحقيق الأهداف الأخرى كما خطّط، (القضاء على قدرات حماس ووجودها في غزة/ القضاء على قيادات المقاومة سواء في لبنان أو غزة/ تهديم البنى التحتية..).
-أما هدف عودة سكّان الشمال (الذي لم يكن موجوداً في البداية ثم نتج عن حرب الإسناد) فإنه لا يزال قيد المتابعة.
-قبل انقضاء سنة على طوفان الأقصى، كان الكيان الإسرائيلي المؤقّت قد حقّق أهدافاً كبيرة لم يكن قد أعلن عنها صراحة مثل اغتيال الشهيد إسماعيل هنية في طهران، واغتيال السيد حسن نصر الله، وحجم التدمير الهائل الذي لجأ إليه كاستراتيجية للضغط النفسي والمعنوي والمادي.
إنّ المشكلة الأساس مع نتنياهو، تكمن في إصراره وثباته وعناده على تحقيق ما يقول (وهذا نابع من خلفيته الفكرية والعقائدية واهتمامه بالتاريخ والجغرافيا، وهي خلفية غير موجودة بالمستوى نفسه عند قيادات أخرى). هذا الإصرار والعناد، لم تستطع أميركا ولا فرنسا ولا الأمم المتحدة ولا الأنظمة العربية المتعاونة مع الكيان، أن تخفّف منه ولو قليلا. (للتذكير: عندما "هددت" الإدارة الأميركية بتخفيف الإمدادات العسكرية، قال للجميع سنقاتل بأسناننا وأظافرنا). هذا الإصرار/العناد، هو أحد أسس بناء المصداقية في خطاب نتنياهو، فهو يعلن بصراحة وبدون أي مواربة عن أهدافه ونواياه وما يريد فعله وما يفكر فيه.
ما يقوله نتنياهو، كان غالانت وهاليفي يكررانه إلى حدّ ما. طوال سنة كاملة استمع العالم إلى أهداف هؤلاء القادة، نتنياهو يخطّط، غالانت لا يعترض، وهاليفي ينفّذ.
أبرز أهداف الحرب
يُلاحظ أن القيادات الإسرائيلية العسكرية والسياسية بعدما حدّدت أهدافها وكرّرتها مرارا، عملت خلال 13 شهرا على تنفيذها، ما منحها نوعاً من المصداقية. من أبرز الشعارات والعناوين التي طرحها قادة العدو:
-هذه حرب حضارات وليست فقط حرب وجودية.
-سنقضي على حماس وحزب الله ولن نقبل إلا النصر. (وقد تبين أن هذه الأهداف غير واقعية وتراجع ذكرها والحديث عنها في خطابهم).
-لبنان محتل من قبل إيران وحزب الله وسنحرره.
-سنقيم منطقة عازلة في جنوب لبنان.
-سنعمل لنزع سلاح حزب الله. (وهذا أيضاً هدف لم يعد يرد في خطابات القادة الإسرائيليين).
من باب التذكير التوضيحي: عندما أعلن نتنياهو عن إصراره على دخول رفح، واجهه العالم كله تقريباً، واعتقد الجميع أن كلامه غير قابل للتنفيذ، لكنه ضرب بعرض الحائط كل التقديرات واجتاح رفح. ثم حصل الأمر نفسه مع خط فيلادلفيا، اعترض المصريون وقامت وساطات غربية وعربية، ثم سقطت كل السيناريوهات أمام إصرار نتنياهو على تحقيق هدفه. (بدءاً من الاجتياح البرّي لغزة، مرورا بتقطيعها، وصولا إلى رفح وفيلادلفيا، ثم العودة إلى شمال القطاع لاستكمال الإبادة).
أهداف مستجدة
كما كان لقادة الكيان وعوداً وأهدافاً عملوا عليها منذ 7 أكتوبر 2023، يُلاحظ تسويقهم لأهداف مستجدّة، بدأ الحديث عنها علناً في الفترة الأخيرة، بالتزامن مع الحرب على لبنان. وهي:
-خلق منطقة عازلة في جنوب لبنان.
-دفع حزب الله لما وراء الليطاني.
-قطع أنبوب الأكسجين الخاص بالمقاومة من إيران عبر سوريا.
-منع إعادة تسليح حزب الله.
-جعل قطاع غزة غير صالح للحياة وتهجير الفلسطينيين منه عن طريق القتل اليومي، كما يفعل حاليا في جباليا وبيت لاهيا.
-تدمير تام لجنوب لبنان وتحويل لبنان إلى ضفة غربية ثانية.
-توسيع نفوذ إسرائيل وإخضاع الشرق الأوسط للحكم الإسرائيلي الأمريكي المباشر (سيشمل ذلك أجزاء من لبنان، والأردن، وسوريا، وربما أجزاء من مصر أيضا).
-القضاء على إيران كمعارضة للهيمنة الإقليمية الغربية الإسرائيلية الكاملة. (هذا الهدف لم يذكره القادة السياسيون الحاليون حرفياً، بل كان كلامهم يتضمّن إشارات دائمة إلى الدور الإيراني الذي يحدّ من طموحاتهم ويشكّل لهم تهديدات دائمة)
-تحقيق مشروع إسرائيل الكبرى.
إنّ استمرار الحرب الإسرائيلية، سواء على غزة أو على لبنان، يدلّ على متابعة الإسرائيلي لما يسمّيه (أهداف الحرب)، وهذا ما قد يفسّره البعض بكلمة المصداقية، حيث يعلن العدو بوضوح وصراحة عمّا يريد فعله. المصداقية الحقيقية والفعلية سيتمّ الحكم عليها في نهاية الحرب عندما يأتي وقت تقييم النتائج، ومعرفة مدى تحقّق الأهداف
تهديدات أفيخاي أدرعي: مصداقية مطلوبة في الحرب النفسية
تنطوي شخصية أفيخاي أدرعي الناطق باسم الجيش الإسرائيلي، على جانب تهريجي وانفعالي، عرفه الجمهور العربي منذ عدة سنوات بسبب شخصيته الاستفزازية، وبسبب نشاطه الدائم على مواقع التواصل الاجتماعي، وبسبب الجدالات والمعارك الكلامية التي كان يثيرها في مواضيع كثيرة.
منذ بدء الحرب على لبنان في أيلول 2024، لم يوفّر أدرعي جهداً إلّا واستغلّه في المعركة. وظّف كل عباراته ورسائله لتؤدي مهاماً في الحرب النفسية. اعتاد اللبنانيون والفلسطينيون على تهديدات القرى والمناطق، لكن الأمر الجديد تمثّل مؤخراً في التهديدات المحدّدة بشكل دقيق، لأبنية معيّنة أو مؤسسات أو مجمّعات سكنية. من الوجهة القانونية فإن الجانب الإسرائيلي ملزم بالإبلاغ الإنذاري قبل عمليات الاستهداف في المناطق غير العسكرية، لكن أفيخاي ادرعي استثمر لعبة الإنذارات حتى النفس الأخير. ينشر التحذير على صفحته في موقع X، يوزّع الهلع والرعب والقلق لدى خصومه، وبعد تنفيذ الضربات تصبح المصداقية أمراً واقعاً لا جدال فيه. هي هنا مصداقية قائمة على التوحّش الإجرامي والاستفادة من غياب العقاب، يعرف أدرعي (كما بقية القيادة الإسرائيلية) أنّ أحداً على الكرة الأرضية لن يوجّه له الملامة أو السؤال عن فِعاله، يغتنم الفرصة فيوغل في الإرهاب الحقيقي، وهو يعرف مدى التأثير النفسي الذي تتركه تهديداته وتحذيراته، ولهذا فإن قادة الكيان الصهيوني يحتاجون إلى المصداقية قبل غيرهم، كي يصدّقوا أنفسهم وهمجية ما يقومون به. وينبغي على الجميع أن يعوا أنّ ما يحصل في موضوع التهديدات وقصف الأبنية، ليس مصداقية بل حرباً نفسية مؤثرة، يستغلّها العدو بكل قواه. مع تقدم الوقت، لجأ سلاح الجو التابع للكيان المجرم إلى استهداف مبانٍ لم يتم التحذير بشأنها، بهدف توسيع حالة النزوح والإخلاء التي تنتج عن التحذيرات، وبذلك بنى على الإجراء القانوني مستوى آخر من العدوان، دون أن يكون في الأهداف التي يحذر بشأنها ما يبرر قصفها، فهي مبانٍ مدَنية خالية من السكان في أغلب الأحيان.
سمات خطاب قادة العدو
-يتّصف خطاب قادة العدو بالتبجّح واستعراض القوة (لدى نتنياهو وغالانت وهاليفي تحديداً)
-خطاب مليء بالتهديد والاستعلاء وأن أي خصم مصيره الموت.
-خطاب يتعامل مع العربي والفلسطيني بالكثير من الفوقية والاستحقار.
-يحتوي على قلب للحقائق في أمور كثيرة.
-يستعرض الوقائع والحقائق لكنه يشتمل على التزييف والتوجيه أيضاً.
هل استطاعت قناتا العربية والعربية الحدث بناء مصداقية إخبارية؟
على الرغم من أنّ الصيت العام لقناة العربية هو قناة الأكاذيب، وأنها القناة الخاصة بفبركة الأخبار الموجّهة، والمحبوكة بعناية ضمن أجندات سياسية معيّنة، إلّا أن قناتا العربية والعربية الحدث، أدّتا دور البوصلة التي تؤشر إلى حركات وأفعال الكيان الإسرائيلي المؤقت. وبالتالي، تلقّت القناتان دوراً أوكل إليهما، وأدّيتا وظيفة إعلامية مهمة أنيطت بهما، فكلتاهما ناطقة باسم الجيش الإسرائيلي (علناً)، وكم هناك من الأخبار والمعلومات التي كُشفت للعالم كله، من خلال العربية والعربية الحدث. (النموذج الواضح جدا والأكثر بروزاً، أنه بعد كل عملية اغتيال أو استهداف يقوم بها العدو، تكون العربية أو الحدث، أول قناة تعلن حقيقة العملية، والشخصية المستهدفة، مع تفاصيل أخرى، إمّا نقلاً عن مصادر إسرائيلية مباشرة، وإما نقلاً عن الإعلام الإسرائيلي، مثل خبر استهداف السيد محسن شكر والحاج إبراهيم عقيل وصولاً إلى خبر استهداف سماحة الأمين العام، وحتى الإستهدافات العملياتية الجارية خلال الحرب).
يحضر في هذا السياق، ما كتبه قبل عدة أشهر، الناطق السابق باسم الحكومة الإسرائيلية آيلون ليفي عبر حسابه على تويتر، حينما كثب: "ظهرتُ على قناة العربية السعودية التي هي أكثر إنصافاً من القنوات الغربية، بشأن تغطيتها للحرب".
فيما يخصّ الحرب الإسرائيلية على لبنان وعلى المقاومة، استطاعت قناتا العربية والعربية الحدث، بناء مصداقية، لسببٍ بسيطٍ جدا وهو أخذ الأخبار من المصدر الإسرائيلي. تمظهر ذلك من خلال العناوين التالية:
عامل السرعة في نقل الأخبار: أسبقية دائمة
لا يوجد فضائية أو قناة إخبارية لبنانية أو عربية تنافس قناتي العربية في عامل السرعة. ففي الاستهدافات التي تحصل في بيروت أو في دمشق أو في الشمال السوري أو في العراق، يلاحظ المتابعون أن سرعة ورود الخبر إلى غرفة الأخبار في العربية هي المتحكّم والسائد. فهناك معرفة سبّاقة في عمق بعض الأخبار وفي خلفياتها، بالإضافة إلى تحديد بعض العناصر الخبرية التي تشبع فضول الناس.
السبق الصحفي: أول من يعلن عن نتائج الضربات الإسرائيلية هي قنوات العربية
لا تكتفي العربية والعربية الحدث بعنصر السرعة في إذاعة الخبر فقط، إذ أنه وبعد امتلاك عامل السرعة، يأتي العامل الأهم وهو النتائج المتحقّقة، التي ليس بالضرورة أن تكون صحيحة أو دقيقة، لكنها مؤشّر مهم إلى المستوى الاستخباراتي الموجود لدى هذه الفضائية. نتذكر في هذا السياق الأخبار غير الدقيقة عن استشهاد الحاج وفيق صفا، أو عن استشهاد نجل النائب حسن فضل الله أو خبر استشهاد الحاج علي كركي قبل استشهاده مع سماحة الأمين العام وسوى ذلك من الأخبار غير الدقيقة.
حوارات مع شخصيات إسرائيلية أو داعمة للكيان.
لا يشكّل هذا العنوان تميّزاً بقدر ما يشكّل إدانة. فالحوار مع الشخصيات الإسرائيلية أمر يتمنّاه العدّو ويتلهّف لتحقيقه، بهدف تطبيع العلاقات وتمرير الأفكار. إنّ قادة العدو يحاولون جهدهم استثمار هذه الفرصة، فرصة التوجّه المباشر لرأيٍ عام عربي كبير، عبر واحدة من أبرز الفضائيات العربية، وبالتالي فإن كلامهم يأتي مشبعاً بالرسائل حول قوة الكيان الصهيوني، وحصانة "دولتهم" الإسرائيلية الكبرى، وأحقّيتهم بالتوسع على حساب الشعوب الأخرى، وأن أيّة حركة مقاومة تفكر بالوقوف بوجههم ستكون محكومة بالفناء والزوال، فهم الأقوياء والآخرون ضعفاء.
وبما أنّ قناتا العربية والحدث لا تتحرّجان من استضافة الشخصيات الإسرائيلية، فإنهما غالباً ما تسوّقان للسردية الإسرائيلية وللآراء والمواقف التي تروّج الموقف الصهيوني وتكرّر أهداف قادة العدو. ومن الطبيعي أن المشاهد، حين يستمع إلى الموقف الصهيوني مباشرة من أصحابه، فإنّ التأثير يكون مختلفاً عمّا لو كان بطريقة غير مباشرة.
متابعة أخبار خسائر العدو
ملحوظة: في الأسابيع الأخيرة لوحظ أن القناتين تمرّران أخباراً تتعلّق بخسائر العدو الإسرائيلي، البشرية والمعنوية، وهو أمرٌ لم يكن معتاداً خلال فترة طوفان الأقصى وما تلا 7 أكتوبر 2023، حيث كانت التغطية تتركّز المآسي الفلسطينية وعلى الثمن الغالي الذي تسبّبت به حركة المقاومة. لم يكن معتاداً ولا مألوفاً أن تنشر العربية أو تتحدّث بإسهاب عن الخسائر الإسرائيلية، لكنها في تغطية أخبار الجبهة مع لبنان، أوردت أكثر من مرة أخباراً عن أعداد القتلى الإسرائيليين، تحت عنوان: "مصادر خاصة للعربية، أو معلومات خاصة للحدث: مقتل خمسة جنود إسرائيليين في لبنان". صحيح أن المهنية تتطلّب هذا السلوك الإعلامي لكن قناة العربية لم تسعَ يوماً نحو المهنية بقدر سعيها نحو ترتيب الأولويات بالنسبة لها.
إنّ بناء المصداقية في خطاب قادة العدو وعلى شاشة قناتي "العربية" و"العربية الحدث" مرّ بعدة مراحل، بدءاً من مصداقية معدومة ومشكوك بأمرها، وصولاً إلى مصداقية قائمة على تنفيذ التهديدات الإسرائيلية. فعندما ينفّذ العدو تهديداته لا يدلّ الأمر على مصداقية بقدر ما يدلّ على عقلية إجرامية تستغل الحرب النفسية في كل تفاصيلها.
إن العدو الذي يتّصف بالخداع والتضليل وارتكاب الإبادة، من الصعب أن يمتلك مصداقية. المصطلح لا يتناسب مع كيان الاحتلال وتاريخيته. لذلك من المفترض أن تُقرأ هذه (المصداقية) بعقلية أخرى، مثل السؤال عن الغايات التي يريد العدو الوصول إليها، أو مثل الاستثمار في الحرب النفسية حيث يهدف لإضعاف النفوس والتشكيك بجدوى المقاومة. فالخلاصة تقول لا مصداقية لعدو مجرم برتكب إبادة متنقلة من شعب إلى شعب، بل همجية مستمرة تقوم علر ارتكاب كل الفظائع لمزيد من الترهيب والضغوط.
نعود هنا إلى ما تضمنّه تقرير فينوغراد حين أوصى بإعلان الأهداف لبناء المصداقية "نأمل في ألا تؤدي نتائج تحقيقنا واستنتاجاتنا من التقريرين المرحلي والنهائي إلى تصحيح العيوب والنواقص فحسب، وإنما ستساعد المجتمع الإسرائيلي وزعماءه ومفكّريه في دفع الأهداف البعيدة الأمد لإسرائيل وتطوير الطرق المناسبة لمواجهة التحديات والردّ عليها".
وفي سبيل تطوير الطرق المناسبة لمواجهة التحدّيات والردّ عليها، يمكن الإشارة هنا إلى الجانب الإعلامي وما قام به العدو الإسرائيلي خلال معركة طوفان الأقصى والحرب على غزة، حين استهدف الجسم الإعلامي والصحافي بضراوة وتعمّد (حوالي 200 شهيد من الصحافيين). فهل جاء هذا الاستهداف إعماءّ للحقيقة وإخفاءً للصور وتكميماً للأفواه؟ حتى لا تكثر شهادات الإدانة ووثائقها ضد المخطط الصهيوني وجرائمه. وبالتالي تكون عاملاً إضافياً خلال المحاسبة الملاحقة المستقبلية؟