عُرف الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون "بمعاداته للسامية" وفق التعبير الإسرائيلي، حتى أنه طلب مرات عدة بإقالة مسؤولين بإدارته (مثل مدير مكتبه يوليوس شيسكين) كانوا من أصول يهودية بعد أن وصل إلى قناعة بأنهم "أوغاد ولا يمكن الوثوق بهم". وعلى الرغم من ذلك، شهدت ولايته نقلة نوعية في المساعدات العسكرية الأميركية لإسرائيل، بعد أن أمر بإنشاء جسر جوي عام 1973 نقل 22 ألفاً و225 طناً من الأسلحة الثقيلة خلال شهر واحد. وربما اقترب جو بايدن من التلويح بتقييد أو تأجيل شحنات الأسلحة بعد أن طولب بأن يكون أكثر "شجاعة"، إلا أن اللائحة التي تضم مواقف رونالد ريغان ودوايت أيزنهاور، تضم أيضاً اسم نيكسون. وما يحركهم جميعهم هي المصلحة الأميركية المتشعبة كأخطبوط تمتد أيديه إلى شركات الأسلحة والأزمات المحلية.
بعد فشل جولة المفاوضات الأخيرة، عادت التساؤلات تتمحور حول الرغبة الحقيقة للولايات المتحدة في وقف الحرب، ومدى قدرة بايدن على الذهاب بعيداً نحو تحقيق هذا الهدف. خاصة وأنه كان قد لوّح بتقييد شحنة من الأسلحة كوسيلة ضغط. لكن آمال المنتقدين المعقودة على "موقف شجاع" للرئيس والتي تلتقي مع بعض المسؤولين الأميركيين بعد اتهامات بارتكاب الإبادة الجماعية قد لا تترجم أفعالاً، ولا تعدو كونها دعاية تخدم الطقوس الانتخابية. اذ أن خيار استمرار الدعم العسكري من عدمه، يقيده عدد من المحددات الخارجية على الساحة الدولية من جهة، وأخرى أميركية محلية من جهة أخرى، وهي العبء الأكبر بالنسبة لساكن البيت الأبيض. وهنا لا نتحدث عن أمر تفصيلي عَرضي، بل عن شبكة واسعة من المصالح الداخلية التي تبدأ بمعدلات البطالة ولا تنتهي عند شركات الأسلحة التي تمول بدورها العديد من الجمعيات والحملات الانتخابية والشركات العملاقة في واشنطن، بما في ذلك مواقف كبار المستثمرين في وول ستريت وسوق الأسهم.
عندما تقدم الولايات المتحدة مساعدات عسكرية لإسرائيل، فإن الحكومة الإسرائيلية ملزمة على صرف الغالبية العظمى من هذه الأموال بشراء الأسلحة الأميركية. هذا ما يفرضه العرف السائد في العلاقة بين الجانبين حتى لو كان القانون الأميركي ليس واضحاً بما فيه الكافية في شرح هذا الأمر.
تلك الأسلحة الأميركية التي تشتريها إسرائيل يتم إنتاجها في مصانع في جميع أنحاء الولايات المتحدة. لذا، فإن العديد من المشرعين الأميركيين لديهم مصلحة في الحفاظ على هذه المساعدات لأن هذه الأموال تنتهي بالتدفق إلى ولاياتهم وتوفير وظائف محلية.
خلال فترات الحرب، غالباً ما تؤدي الزيادة في الإنفاق العسكري إلى زيادة الإنتاج والعمالة، وانخفاض معدل البطالة. وهذا ما يدركه الرؤساء جيداً. واللافت أن معدل البطالة في عهد نيكسون ارتفع إلى ما يزيد 5% بحلول عام 1972 وهو أحد الأسباب الذي جعل نيكسون يقدم على رفع الإنتاج العسكري لتوفير فرص عمل.
تعد شركات الأسلحة الأميركية التي يمتلك نحو 18 عضواً في الكونغرس مع زوجاتهم واقاربهم أسهماً فيها، هي الأولى عالمياً، حيث وصلت أرباحها من غزو كل من أفغانستان والعراق أكثر من تريليوني دولار، دون ذكر فيتنام وليبيا وسوريا واليمن وفلسطين وغيرهم...
من بين هذه الشركات، شركة لوكهيد مارتن Lockheed Martin التي يصل عدد العاملين فيها إلى 115 ألف عامل، وشركة رايثيون Raytheon التي يتجاوز عدد العاملين فيها الـ 63 ألف عامل.
لا يمكن حصر صناعة هذا القرار بالمحددات الداخلية المحلية، بل ان عدداً من العوامل تدخل أيضاً في تبني الإدارة الأميركية قرار توريد الأسلحة لكيان الاحتلال أم لا. من ناحية أخرى، يشوب هذا الأمر عدداً من الهواجس لدى شركات الأسلحة نفسها، والتي قد تلعب دوراً في التأثير على صناعة القرار.
المشاكل الاستراتيجية تنبع من ميل إسرائيل إلى إعادة تصدير الأجهزة والتكنولوجيا الأميركية. الانتاج العسكري هو القطاع الصناعي المهيمن في الكيان، وفي ظل أزمات عديدة في الاقتصاد، توفر الضرورات قوة دافعة قوية لإسرائيل لتصدير أي منتجات عسكرية ممكنة. خاصة وأن شركات الأسلحة الإسرائيلية لا يمكنها التنافس مع الولايات المتحدة الأكبر وشركات الدفاع الجوي الأوروبية، التي تبيع للولايات المتحدة وأوروبا الغربية.
واللافت، أن تصنيف هذه المشاكل على أنها استراتيجية، بعد أن غضت إسرائيل الطرف في تجارتها تلك، عن الجهة المستوردة. على سبيل المثال، كانت سياسة الولايات المتحدة منذ الحرب الكورية هي منع "صعود الهيمنة في شرق آسيا"، وكان استمرار إسرائيل في توريد أسلحة حساسة ومتطورة للصين سيُعد خرقاً لا يمكن تجاهله.
كانت مخاوف واشنطن تنشأ من بيع البيانات الفنية أو إعادة تغليفها وإعادة تصديرها بشكل إسرائيلي، وهذا ما ينتج عنه ضرراً اقتصادياً لشركات الأسلحة الأميركية التي استثمرت في البحث والتطوير.
على الرغم من ذلك، فإن الحديث المستمر عن ما يحدث قد ينشئ اضطرابات كبرى في العلاقة. واي نوع من الخلاف مع إسرائيل الذي قد يضر بشركات الأسلحة الأميركية تحديداً، هو أمر غير مرغوب فيه.
يلخص العلاقة القائمة بين واشنطن وتل أبيب هذه الأيام، أحد المسؤولين الجمهوريين في الكونغرس: "محاولة الحصول على نفوذ في وقت الحرب هو أسوأ وقت لأن هذا هو الوقت الذي يكون فيه الشريك هو الأقل احتمالاً لتوجيهه من قبل الإدارة... لن تحد الدول من حربها لأن الولايات المتحدة تحاول خوض الحرب من واشنطن. هذا هو أسوأ نوع من الإدارة التفصيلية". ولعل أفضل ما يمكن أن تفعله واشنطن بعد انتهاء الحرب، هو إعادة تقييم العلاقة بين الجانبين.