بدأ الحديث في الصحافة حول جولة جديدة من المحادثات السورية- التركية، وترافق ذلك مع ما اعتُبر "ثورة" أو "انتفاضة" في وجه التواجد التركي. ولكن المعطيات التي دفعت بالرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، الى مخاطبة الرئيس السوري، بشار الأسد، بالسيد الرئيس، أطلقت جرس الإنذار لدى حلفائه المتعاملين معه. البعض اعتبر أن المحادثات ستكون عبئاً على الأميركي، وهذا الإفتراض صحيح، ليس لأن تركيا ستنقلب على أمريكا، ولكن لأن القبول التركي بالخروج من سوريا، سيترك الأميركي وحيداً في الميدان، وهذا ما لا يريده الأميركي. وإذا كانت المحادثات بين السوريين والأتراك ستصل إلى نتيجة إيجابية، فإن ذلك سيسقط المطلب التركي المتواصل بأن شرق الفرات أولاً، مما سيجعل الأميركي غير قادر على الإستمرار بالتواجد وحده في شرق الفرات مع قوة الضربات التي تتعرض لها مواقعه في سوريا على يد المقاومة العراقية، ومع ذلك فإن التركي بات محشوراً.
الأمر الذي شكّل خطراً بالنسبة له، والذي سيجعله يركض وقدماه تضربان مؤخرة رأسه، هو قرار الإدارة الذاتية الكردية"مسد" وبالتوافق مع القوات الكردية "قسد" بإجراء الإنتخابات. كما أن سماح الأميركيين بذلك هو خطأ تاريخي لأن أكثر ما تتخوف منه تركيا على مصالحها وعلى أمنها القومي هو إقامة إدارة ذاتية كردية على حدودها الجنوبية الشرقية، والتي ستشكل حصاراً لها مع كردستان العراق، ومجموعات أكراد قنديل، والذين يشكلون الذراع العسكري والسياسي لحزب العمال الكردستاني والذين هم أساس تشكيلات قسد، والذين تعتبرهم تركيا تنظيماً ارهابيا، والذي قام فعلياً بعمليات إرهابية ضد تركيا ويطالب بالإنفصال في كردستان التاريخية.
في هذه الأجواء سيسعى التركي للمحادثات، ولكن في الحقيقة لا أحد يعلم بالتحديد إذا ما كانت هذه الجولة من المباحثات ستصل إلى نتيجة ما ام لا. اذ جاءت تصريحات أردوغان في وقت بدأ فيه حدثان مهمان، الأول الإنتخابات في "مسد"، والتي تنذر بنمو قوتها في منطقة الجزيرة السورية في شرق الفرات. والحدث الثاني، هو "انتفاضة" إدلب وما حولها، والتي طالبت بخروج الأتراك وحرقت العلم التركي، بسبب حالة خلط الأوراق في الشمال الغربي السوري. لا يمكن تحديد أيهما جاء أولاً: تصريح أردوغان أم الإنتفاضة. فالعلاقة ما بين المجموعات المسلحة وأردوغان في مد وجذر منذ أكثر من عامين، والأكثر من ذلك أنها تسير نحو التفكك منذ أعلن أردوغان أنه لن يتدخل في السياسة الداخلية السورية، ووجه كلاماً بأنه يعترف بالرئيس الأسد كرئيس وقائد دولة سوريا، وأنه يسعى لعودة العلاقات "الطبيعية" مع سوريا، وهو إعلان من طرف واحد، وبدأ يُقلق فعلياً المجموعات، أسواء كانت سياسية أم إرهابية عسكرية والتي تعاملت وتتعامل مع تركيا، حول مصيرها المجهول.
حتى اليوم، نحن لم نسمع أي تصريح من الدولة السورية يتحدث عن مباحثات تتجاوز اللقاءات الأمنية من أجل الهدف الأوحد وهو خروج القوات التركية من خارج الأراضي السوري، ووقف دعم الإرهابيين، وتزويدهم بالسلاح وبالتالي تنظيم عودة اللاجئين. ولكن اللافت هو في الأحداث التي بدأت هذا الشهر والتي أثارت عاصفة جدل حول نية السوريين في إدلب وريف دمشق التحرر من نير الإستعمار التركي الذي بدأ في العام 2011، مع دخول الجيش التركي لدعم العناصر الإرهابية المسلحة. ولكن في الحقيقة أن هناك صراعاً كبيراً بين ما أنشأه التركي منذ ثلاثة أعوام تقريباً وهو ما يُعرف بالجيش الوطني السوري [جوس]، وتدّخل تركيا في الإدارات المدنية، ورفع الأعلام التركيةن وفرض اللغة التركية كلغة للتعليم وخصوصاً في أقصى الشمال ومن ثم إطلاق يد "جوس" في المناطق التي ما تزال هيئة تحرير الشام تعمل بها، وملاحقة الجولاني وأفراد عصابته. فالخلاف في الأساس بين عملاء تركيا! وهي ليست المرة الأولى، فقد كان هناك جولة سابقة وبنفس الحدة ما بين الطرفين في آب/ أغسطس العام 2022. ولكن الفرق الوحيد أنه بعد تحركات 2022 تمركز الجيش السوري في مواقع مهمة شمال شرق مدينة حلب، واليوم وقبل هذه التحركات توجّه الجيش، وبحسب مصادر خاصة ومطلعة، باتجاه البادية السورية، وذلك يطرح تساؤلات في الحقيقة لم تتضح نتائجها بعد. الخلاف هو بين من صنعتهم تركية في الشمال الغربي، وكل جهة تُعبر عن استيائها ودعمها للأتراك بحسب موقعه الحالي. فالتركي كما الأميركي يريد التخلص من ربط المجاميع الإرهابية باسمه، وأهم الأسباب هو الإستياء الداخلي التركي بسبب الضائقة الإقتصادية والتي يُحمّل الأتراك كما الأردونيون واللبننانيون مسؤوليتها للنازحين السوريين، بسبب توقف المساعدات الدولية أو شحها، مما انقلب على التبادل الإقتصادي الداخلي.
اللاجئون السوريون اليوم، ونتيجة لشح الموارد، يزاحمون العمال في البلاد التي هم فيها لأسباب عدة: أولها، رخص اليد العاملة السورية. وثانيها، الحرفية التي يتمتع بها العامل السوري. وثالثها، الجلد والصبر والإلتزام بساعات العمل. وهذه الأسباب الثلاثة تحدث عنها، ثلاثة مقاوليين لبنانيين حول أسباب تشغيل العمال السوريين من ثلاث مناطق مختلفة هي: عالية وبيروت والضاحية الجنوبية، وهذا كان قبل الحرب على سوريا في العام 2011، وما تزال المعطيات ثابتة حول عمل العمال السوريين، وبعد الحرب حول مهنية الإختصاصيين إضافة للعمال وفي مختلف المهن. ضمن هذا الواقع المتفاقم يعمل أردوغان اليوم، ويصرح يميناً وشمالاً، ويطرح مواعيد لقاءات وهمية هنا وهناك. ويذّكرنا بشخصية الرئيس الأميركي جو بايدن، فالتشابه ما بين الشخصيتين التائهتين وخاصة بعد طوفان الأقصى غريب وواضح. وحقيقة أن المواعيد وهمية، يأتي عبر ما صرحت عنه صحيفة الوطن السورية، وبعد بدأ الصحف والمواقع الحديث عن لقاءات سورية- تركية، حيث نشرت صحيفة الوطن السورية: أن سوريا تؤكد أن الإجتماع القادم المباشر بين الطرفين لم يحدد وقته، مع العلم أن المحادثات العراقية التركية أكدت على ضرورة انسحاب القوات التركية من كامل الأراضي السورية وسيادة سوريا على كامل أراضيها وبدعم عربي كامل، وأن سوريا تصر على وضع قواعد أساسية للحوار والبناء عليها في ملفات دعم المجموعات الإرهابية، وتعريفهم، وفي ملف عودة اللاجئين السوريين! وتضيف الوطن السورية، "أن عامل الوقت لم يعد يعمل لصالح تركيا بسبب ما تشهده مدنها من التحامات مع اللاجئين السوريين من قبل متطرفين أتراك وسرق ممتلكات السوريين".
بالتأكيد تستغل الأحزاب المعارضة لسياسة أردوغان ما يحدث في الداخل التركي ومنها حزب الشعب الجمهوري الذي ما فتئ يطالب أردوغان بمراجعة مواقفه من سوريا، وانتقاده الشديد بسبب سياسات الحكومة التركية المعادية للشرق الأوسط، وبالتحديد الدول العربية، ووضع خريطة حل واقعية للاجئين السوريين، وإعادتهم إلى بلادهم، والتطبيع مع الدولة السورية. ببساطة، لأن إعادة التطبيع مع الدولة السورية هو الذي سيضمن عودة العلاقات التجارية مع باقي الدول العربية، وسيضمن وصول البضائع التركية إليها عبر الممر البري الأسهل والأقل تكلفة والأكثر عملانية، خاصة وأن سوريا، وبحسب ما يتداوله التجار في بعض المناطق اللبنانية، فقد منعت الدولة السورية مرور البضائع التركية، الدولة المحتلة، عبر معابر إدلب وبالتالي إلى لبنان وغيرها من الدول العربية، والتي تحمل منتجات الأجبان والألبان، أسواء كانت تأتي من ريفي حلب وإدلب المحتلتين أو من تركيا نفسها، فهل يمكننا أن نقدر تبعات هذا الأمر على باقي السلع على الرغم من بساطة قراءته؟ إنها كبيرة جداً!
هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة رأي الموقع
-كاتبة صحفية، عضو في الرابطة الدولية للخبراء والمحللين السياسيين / ماجستر في العلاقات الدولية من جامعة LAU