يتميّز النظام الإيراني بفرادة النموذج في الحكم الذي يجمع القانون الإلهي الديني الغيبي والقانون الإنسان الوضعي؛ وارتبطت محدّدات كلّ من "الجمهورية" و "الإسلامية" وأطرها في توليفة خاصة أمّنت للنظام السياسي الإيراني خاصية في عملية صنع القرار الإيراني بغية الحفاظ على منجزات الثورة وبناء الدولة. ويقصَد بصناعة القرار "التوصل إلى صيغة معقولة من بين بدائل متنافسة. والقرارات كلها ترمي إلى تحقيق أهداف بعينها أو تفادي نتائج غير مرغوب فيها". في هذا الإطار، سنتناول في هذا المقال مسار صنع القرار في بنية النظام السياسي الإيراني كما وصلاحيات السلطات الثلاث (التشريعية والتنفيذية والقضائية) والولي الفقيه والمجالس الأخرى (يمكنكم تحميل الدراسة بشكل كامل أسفل الملخّص أدناه).
توزّع السلطات ومراكز صنع القرار في نظام الجمهورية الإسلامية
تقوم طبيعة الحكم في النظام الجمهوري الإسلامي على هياكل سياسية واجتماعية وفكرية تحفظ منجزات الثورة وتعيد إنتاج ثقافتها في كيان سياسي حديث: كيان الدولة الجمهورية وبناء اقتدارها. وتفرض خصوصية الدمج المؤسساتي مجموعة من التداعيات تظهر في تحدّيات جدلية الثورة - الدولة - أقلها تحدي التوفيق ما بين سلطة الشعب وسلطة الولي الفقيه الدينية والسياسية في آن معًا في سياق تأمين متطلبات الصبغة "الجمهورية" من جهة، و"الإسلامية" من جهة أخرى، بما يحافظ على منجزات الثورة دستوريًّا، وإعادة إنتاجها داخل النظام. تضم البنية السياسية الإيرانية مجموع السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية، إضافة إلى عدد من المجالس المستحدثة والخاصة بطبيعة النظام الجمهوري الإسلامي بما يتوافق مع خصوصيته الدينية. تؤدي هذه المجالس أدوارًا متعددة بموجب الصلاحيات التي يمنحها إياها الدستور، وتتوزع مهامها ما بين الرقابة والإشراف والاستشارة. وهي مجلس الخبراء، ومجلس صيانة الدستور، ومجلس تشخيص مصلحة النظام، ومجلس الأمن القومي. وهناك سلطات تمارسها مجموعة من المؤسسات الأخرى الحزبية وغير الحكومية، وهي تساهم في صنع القرار، ولا تتفرد بالعملية أو لها كلمة الفصل.
السلطة التنفيذية أو سلطة رئيس الجمهورية
تعد صلاحيات رئيس الجمهورية، وفق الدستور الإيراني، ضيقة بالمقارنةً بتلك الخاصة بالولي الفقيه، القائد، مما يجعل الرئيس أقل نفوذًا من الولي، وسلطته السلطة الثانية في البلاد بعد سلطة ولاية الفقيه. ويكون الرئيس بمثابة رئيس السلطة التنفيذية بيده صلاحيات منصب رئيس الوزراء، يشكّل الوزارة لكن بعد موافقة مجلس الشورى على الوزراء فردًا فردًا، ويكون مسؤولًا أمام الشعب ومجلس الشورى والقائد. وفق المادة 122 من الدستور. وموقع الرئيس جزء من المواقع الأخرى التشريعية والقضائية التي يحلّ القائد الخلافات فيما بينها. ومن أهمّ التطوّرات في الدستور الإيراني المعدّل عام 1989م، أنّه توسّع في حق رئيس الجمهورية بإلغاء منصب رئيس الوزراء، وتعيين معاونين ونواب للرئيس مع تميّز وضع النائب الأول. وهناك العديد من المهام التنفيذية المنوطة بالوزراء في إطار الدستور وتعديلاته.
السلطة التشريعية أو مجلس الشورى
يمثّل مجلس الشورى السلطة التشريعية، بل هو المكون الأول لها، وهو المؤسسة الوحيدة غير القابلة للحل، ما يعطي زخمَا لسلطة الشعب في نظام الجمهورية الإسلامية. ويضم المجلس ممثلي الشعب الذين يُنتخبون مباشرة من قِبل الشعب وعبر الاقتراع السري، ومدة الدورة لأربع سنوات. وينصّ الدستور على أنّ عدد نواب مجلس الشورى هو مائتان وسبعون نائبًا، وبعد كل عشر سنوات يمكن إضافة عشرين نائبًا، كحد أقصى في مراعاةٍ للكثافة السكانية.
وعلى الرغم من سعة صلاحيات مجلس الشورى المدوّنة في الفصل السادس الخاص بالسلطة التشريعية، حيث يعكس حرية الشعب، وهو غير مسؤول أمام السلطتين التنفيذية والقضائية، إلا أنّ حرية عمله مقيدة بسلطة مجلس صيانة الدستور، طبقًا للمادة السادسة والتسعين، من خلال إشرافه على أهلية المرشحين للمناصب النيابية، أولًا، ومراقبته لأداء مجلس الشورى، ثانيًا، بما يتعلق بالقوانين التي تخالف أصول وأحكام مذهب البلاد.
وعليه، سبب التحديد والرقابة وفق الدستور، هو "ضمان مطابقة التشريعات التي يصادق عليها مجلس الشورى الإسلامي للأحكام الإسلامية والدستور".
السلطة القضائية
يصبغ الدستور الإيراني القضاء الإيراني بصبغته الدينية، وقد أفرد الفصل الحادي عشر لموضوع القضاء بكل تفاصيله في تسع عشرة مادة. يتم اختيار القاضي وفق المعايير الفقهية، ويتوجّب عليه إصدار الحكم وفق المصادر الإسلامية المعتمدة أو الفتاوى المعتبرة، مع عدم إيجاد حكم خاص بالدعوى في القوانين المدوّنة، ولا يحق لقضاة المحاكم "تنفيذ اللوائح والمقررات الحكومية التي تخالف القوانين والمقررات الإسلامية أو تلك التي تكون خارج إطار صلاحيات السلطة التنفيذية..". تتكوّن السلطة القضائية من كبار مسؤولي السلطة القضائية في الدولة (شبيه بما يسمى بالفرنسية: Vérité de Lapalisse). وقد حل رئيس السلطة القضائية محل رئيس القضاء الأعلى، بعد تعديل الدستور، سنة 1989م، وأُلحِق به مجلس استشاري. ويُعيّن رئيس السلطة القضائية من قبل الولي الفقيه لمدة خمس سنوات.
سلطة الوليّ الفقيه
يتبنّى الدستور الإيراني نظرية ولاية الفقيه المطلقة. وتنصّ المادة الخامسة منه على أنّ ولاية الأمر وإمامة الأمة في جمهورية إيران الإسلامية تكون بيد "الفقيه العادل، المتقي، البصير بأمور العصر، الشجاع القادر على الإدارة والتدبير". أعطت المادة السابعة عشر بعد المائة الولي الفقيه صلاحية اتّخاذ القرار الأول بعد التشاور مع مجلس تشخيص مصلحة النظام. فالوليّ هو الذي يحلّ مشكلات النظام، ويشرف على حسن إجراء السياسات العامّة، وينظّم العلاقات بين السلطات الثلاث، ويعيد توازنها، وينظّم تداخلها. وتمارِس كلّ السلطات في النظام الجمهوري الإسلامي صلاحياتها تحت إشراف الولي الفقيه بحسب المادة السابعة والخمسين، وتوزّع صلاحيات القائد والمؤسسات المرتبطة به، من الناحية العملية، إلى سلطة التعيين والإشراف على كل المفاصل الحساسة. وعلى الرغم مما يمتلكه الولي الفقيه من صلاحية عزل رئيس الجمهورية، إلا أنه لم يستخدم هذه الصلاحية إلا الإمام الخميني عندما أقال أول رئيس للجمهورية، الرئيس بني صدر.
مجمع تشخيص مصلحة النظام
تتركز مهام المجلس على الشق الاستشاري؛ التشاور مع الولي الفقيه في حال وجود مشكلة ما تتعلق بسياسات الدولة العامة، إضافة إلى الحكم بين مجلس الشورى ومجلس صيانة الدستور في حال نشوب أزمة بينهما. وتعدّ قراراته نافذة بعد موافقة الولي الفقيه على ما صادق عليه أعضاء المجلس من مقررات.
مجلس خبراء القيادة
مجلس الخبراء كناية عن مجلس خاص بنظام الولي الفقيه، توكل إليه مهام تحديد آلية اختيار الولي الفقيه وتعيينه، والإشراف على مهامه. أما المهامّ الأخرى للمجلس، وفق المادة الحادية عشرة بعد المائة، فهي عزل الولي الفقيه وإقالته على رغم سلطتيه الدينية والسياسية، وذلك عند عجزه عن أداء مهامه القانونية، أو فقد أحد شروط تعيينه، أو ارتكابه ما يخالف الإسلام أو أسس النظام.
مسار صنع القرار في بنية النظام السياسي الإيراني
تؤمّن البنية السياسية في إيران المجال أو الفضاء الذي يسمح لكل من الشعب والقيم الثورية والقانون الديني-الوضعي بالتحرك وفق آليات عمل بنيوية في إطار المصالحة والموازنة والتكيّف في سبيل تجاوز تحديات النظام وإدارته وصنع القرار.
تتوزّع مسؤولية مهام صنع القرارات - التي تكون على مستوى مصالح البلاد العليا وتمس بالأمن القومي للبلاد - ما بين القائد ورئيس الجمهورية ومجلس الشورى ومجلس الأمن القومي الذي يرأسه رئيس الجمهورية، ويكون التصديق على القرار من مهامّ الوليّ الفقيه. كما تخضع عملية صناعة القرار في المجال الاقتصادي تمامًا كالقرار السياسي، لديناميات تفاعلية بين مركز القيادة والمجلس الأعلى للأمن القومي، وتساهم فيها كلّ من المؤسسة التنفيذية بوزرائها الاختصاصيين ومجلس الشورى. وعليه، يتشارك كل من القائد الولي الفقيه والرئيس ونواب الشعب مسؤولية البت بالقرار. ويتضح الدور التشاركي ما بين القيادة والرئاسة على المستوى القانوني في إدارة تحديات البلاد رغم اقتصار صلاحيات الرئيس على الفرع التنفيذي، وما تواجهه من قيود، إلا أن الرئيس يمتلك بعد القائد الأعلى، التأثير الأكبر على السياسة الخارجية، نظرًا للطبيعة شبه الرئاسية وشبه البرلمانية لجمهورية إيران الإسلامية، ويبقى باستطاعته معارضة سلطة الفقيه الحاكم في العديد من القضايا. بيد أن مسألة اختلاف وجهات النظر بين الرئيس ووالي الفقيه يفصل فيها الدستور الذي لا يعطي للرئيس حق معارضة الولي الفقيه، بل يحتاج موافقته.
ختاماً، يسهم تقسيم السلطات وفق الدستور الإيراني في الحؤول دون تمركز السلطة في موقع واحد، بما يمنع من العودة بالمجتمع الإيراني إلى الاستبداد القاهر والسائد إبان الحكم ما قبل الثورة، سواء القاجاري أو البهلوي. ويوزّع الدستور الإيراني أدوار المؤسسات وفق "لامركزية" تحول دون تفرّد أي مؤسسة بحكم أو قرار، لكن مع خصوصية واضحة لسلطة الولي الفقيه؛ تمنحه أعلى سلطة. فتتّسم اللامركزية في توزيع سلطات المؤسسات الحاكمة وصلاحياتها بخاصية التداخل في حدود الحفاظ على منجزات الثورة الإسلامية، وفي طليعتها النظام الجمهوري الإسلامي نفسه.