تتضمن السياسة الخارجية السورية مجموعة من الأهداف التي تعكس القيم والمصالح الأساسية للدولة، ويقصد بالأهداف التفضيلات المتعلقة بالأشكال المستقبلية المحتملة أي الأوضاع التي تود الوحدة الدولية تحقيقها في البيئة الخارجية، وذلك في النسق الدولي أو الوحدات الدولية الأخرى من خلال تخصيص بعض الموارد، وأن أي سياسة خارجية ناجحة يجب أن تنطلق من مبدأين:
الأول: تحديد وتحليل الأهداف القريبة والبعيدة لهذه السياسية من منطلق المصلحة الوطنية. والثاني: هو التعامل معها على أسس واقعية تتسم بالمرونة والصلابة في الوقت ذاته، إذ لابد من التمييز بين التشدد في تحديد الأهداف الوطنية والتمسك بها، وبين التشدد في أسلوب التعاطي معها والتعامل مع الأطراف الأخرى.
خلال حكم الرئيس حافظ الأسد الذي استمر ما بين عام 1970 وعام 2000، أي فترة ثلاثين عام أرست دمشق من خلالها قواعد ثابتة لإرساء دبلوماسية قائمة على عقد التحالفات الثنائية مع بعض الدول، وكان هنالك اعتراف واسع بأن الرئيس الراحل أستطاع أن ينتهج سياسة خارجية تتسم بالمهارة، وهي سياسة وضعت سوريا في الصدارة بالنسبة لشؤون المنطقة ومكنها من ان تلعب دوراً يفوق ثقلها العسكري أو الاقتصادي، كدورها في إدارة الأزمة اللبنانية وتفوقها على واشنطن في هذا الشأن والحفاظ على مكانتها في الوحدة العربية، وكما لعبت دورا قويا في الشؤون الفلسطينية عن طريق دعم فصائل المقاومة لإبقاء الضغط قائما على إسرائيل، وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على كفاءة الرئيس حافظ الأسد التكتيكية الفذة في وضع حجر الأساس لبناء سياسة خارجية وعسكرية دامت عهداً بعد عهد، وفي السياق لابد لنا من ذكر العلاقات بين دمشق وواشنطن التي بقيت على أمد طويل ضمن علاقات معقدة على الرغم من اتهام واشنطن سوريا دولة راعية للارهاب، ومع ذلك بقيت ترتبط معها بعلاقات دبلوماسية عالية في وقت كانت الصحافة السورية تشن هجوماً لاذعاً ضد سياسية الولايات المتحدة الامريكية في المنطقة، وفي الوقت ذاته تسعى فيه سوريا الى تحسين العلاقات الثنائية بينها وبين واشنطن في كفاءة عالية المقاييس للدبلوماسية السورية.
بعد عقد ونيف من الحرب الجائرة على سوريا على كافة مستوياتها، السياسية والعسكرية والاقتصادية، والتي كان المراد منها تغيير الهوية العربية المقاومة للاحتلال والهيمنة الغربية على القرار العربي، وتهميش الدور السياسي والدبلوماسي السوري في المنطقة، الذي من شأنه أن يحل في آنٍ واحد القضايا الناشئة في الشرق الأوسط، مثل دعم حكومة دمشق للمقاومة اللبنانية (حزب الله)، والمقاومة الإسلامية في العراق إزاء الغزو الامريكي، وتقديم المساعدة على كافة مستوياتها للمقاومة الفلسطينية كـ ( حركة حماس) و ( والجهاد الاسلامي)، لما لهذه الحركات من الدور الهام في المنطقة، الذي بدوره لقي الشعور في الاحباط لدى الولايات المتحدة الامريكية والكيان الصهيوني والأوربيين، لما له الشأن من إقامة توازن وردع أمتد من التسعينات حتى تاريخه.
منذ أن بدأت الحرب الجائرة على دمشق بدا واضحًا تبدل المواقف السياسية لبعض العربية والغربية، كقطع العلاقات على المستوى الدبلوماسي و فرض عقوبات سياسية وإقتصادية، كان المراد منها الضغط على دمشق لتبديل مواقفها. ولكن لم تكن التنائج مرجوة للكيان الصهيوني وواشنطن وحلفائها، حيال ما أبلته دمشق من مواقف ثابتة وصريحة اتجاه سياستها الخارجية ودورها في المنطقة، وهذا ما أكده الرئيس السوري بشار الأسد بأن بلاده ستبقى على ماهو عليه من دعم للقضية الفلسطينية، مؤكدًا انه لم يهتز للحظة أو ظرف وذلك على الرغم من الظروف التي مرت بها سوريا، مشددًا على تقديم كل ما يمكن تقديمه ضمن الامكانيات المتاحة للفلسطينيين او كل مقاوم ضد إسرائيل من دون أي تردد، وشدد أيضًا على ان موقف دمشق من المقاومة وتموضعها بالنسبة لها كمفهوم أو ممارسة لن يتبدل، بل يزداد رسوخًا مشيرًا إلى أن الأحداث أثبتت ان من لا يمتلك قراراه لا أمل له في المستقبل، ومن لا يمتلك القوة لا قيمة له في هذا العالم، ومن لا يقاوم دفاعًا عن الوطن لا يستحق وطنًا بالأساس.
وفي خضم الأحداث حققت دمشق إنجازات أخذة إزاء الأزمة الأخيرة، منها انتصار على الارهاب كـ تنظيم (جبهة النصرة) وتنظيم (داعش) التي تم تصنيفهما من أخطر المجموعات الإرهابية، واستعادة وترميم مفاصل الدولة والإصلاحات على المستوى الاقتصادي والفكري والثقافي والديني، لما له الأخير الدور الأبرز في ترميم مفهوم الدين الصحيح، إما على المستوى السياسي والدبلوماسي شهدت السنوات الأخيرة زخمًا من اللقاءات والقمم والمشاريع، التي تسابقت عليها دول عربية وغربية منها من رفع مستوى التمثيل الدبلوماسي، ومنها من دعا إلى وجوب عودة الجامعة العربية إلى سوريا، ومنها من دعا إلى إعادة الإعمار بعد آلة الحرب الحرب المدمرة.
وفي إطار متقدم بدت ملامح التراجع في النظرة السياسية لدى بعض الدول اتجاه دمشق على الرغم من تأخره، أو إذا صح التعبير في انه كان منذ البداية خاطئاً ولكن إن تصل متأخرًا خيرًا من أن لاتصل، سارعت الدول العربية في رفع مستوى العلاقات مع سوريا بعد أن اعتمدت تونس محمد المذهبي سفيرًا لبلادها في سوريا، بعد انقطاع دام لأكثر من عشر سنوات وفي ذات الاندفاع سارعت الجزائر في تعيين كمال بوشامة سفيرا لها في دمشق، فيما التحقت الإمارات العربية المتحدة سرب التغُّير بعد زيارات على المستوى الرئاسي وزيارة وزير الخارجية الإماراتي لدمشق، وأخرها الرياض التي عينت فيصل بن سعود المجفل سفيرًا لها في سوريا بعد أشهر من إعلان استئناف العلاقات الدبلوماسية بين البلدين ليصبح أول سفير للمملكة منذ بدء الأزمة السورية.
في سياقه ليس من المبالغة القول إن ما نشهده اليوم على الساحة السورية يمثّل نقطة تحوّل غير مسبوقة لدى شعوب العالم، بحقيقة ما تفتعله واشنطن وحلفائها في المنطقة، والمحاولات القمعية لخمد الصوت العربي ولحقوقه، وحقيقة كل ما تدعيه من شعارات زائفة وحقيقة الأهداف السياسية التي تسعى إليها من سلب للثروات، وقتل للشعوب المناهضة لها وارتهان الإرادات، والإبقاء على استعمار خبيث مقنع وأشد وأدهى من الاستعمار القديم والمباشر.