تعتبر زيارة الرئيس التركي طيب رجب أردوغان الأولى إلى بغداد منذ 12 عام خطوة مهمة في السياسة "الأردوغانية" الخارجية التي تسعى مؤخراً إلى إعادة ضبط ساعتها الإقليمية في محاولة إلى إنهاء عقد من "تصفير الجيران" والتوجه نحو العمق الإقليمي لـ"تصفير المشاكل" مع الجيران من خلال ركوب موجة التغيرات الإقليمية والتي لا شك يسعى أردوغان أن يكون له منها نصيب بعد خسارته المدوية في الانتخابات المحلية من جهة وضياع فرصة الالتحاق بالركب المشرقي الذي بات واضح المعالم بعد مفصل 14 نيسان (الذي جاء استكمالاً لمفصل طوفان الأقصى في 7 أكتوبر) والضربة الإيرانية في العمق الإسرائيلي وظهور الموقف الروسي والصيني واضحاً إلى جانب هذا المحور، ناهيك عن اصطفافه (التركي) إلى جانب الغرب في الصراع في أوكرانيا وليس اصطفاف "موقف" فحسب بل إرسال "المرتزقة" للقتال في أوكرانيا ضدّ روسيا ولم تكن مواقفه من العدوان على غزة ترتقي إلى المستوى المطلوب كدولة إقليمية "إسلامية" فاعلة وأيضاً عضو في "الناتو" ناهيك عن ضلوعه في الصراع الدائر في ليبيا والسودان، ولا نغفل عن الاحتلال التركي للأراضي السورية وتقارير تقول بإرساله "المرتزقة" إلى النيجر ودعمه لأذربيجان في صراعها مع أرمينيا.. وفي ظل ما تعانيه بلاده من أزمة اقتصادية خانقة في الوقت نفسه.
وفي خضم هذه السياسات غير المتزنة وجدنا أردوغان في مصر سابقاً، ولاحقاً يسعى لاستقبال قيادة حماس في بلاده، وقبيلها مساعي للقاء الرئيس السوري بشار الأسد لنجده اليوم في العراق في زيارة قد تفتح الباب أمام فرص جديدة لتعزيز التعاون وتجاوز الخلافات المستمرة بين البلدين، إلا أن القضايا العالقة لا تزال تشكل تحديات تتطلب حلولاً.
وكان الهدف المعلن من هذه الزيارة توقيع اتفاقية على التعاون التجاري بأكثر من 20 بند ومناقشة ثلاث ملفات أساسية هي الأمن والمياه وطريق التنمية كما يراد منها أن ترسم مساراً جديداً للعلاقات الثنائية، حيث وقع الجانبان اتفاقاً استراتيجياً كبيراً حول المياه، وتوقيع أكثر من 20 مذكرة تفاهم في الجوانب العسكرية وجوانب أخرى عديدة منها الطاقة والزراعة والمياه، والصحة، والتعليم، والأمن.
أولاً: ملف الأمن
باعتبار أنّه هو الملف الشائك الأول، فقد يكون الأخطر خاصة وأن تركيا لها مطالب متعددة في هذا المجال، فأردوغان وفي ظل تراجع شعبيته في تركيا، يريد تحقيق إنجازات تعزز من نفوذه، حيث تشير التسريبات بأنّ هناك بنوداً أمنية عسكرية سرية تتعلق بأكراد الشمال وبعملية عسكرية في حزيران يتوغل فيها التركي إلى عمق الأراضي العراقية والهدف ايقاع أكبر عدد قتلى ممكن من المقاتلين لحزب العمال الكردستاني تتزامن مع عملية عسكرية في الشمال الشرقي السوري، إضافة إلى إنشاء مكتب أمني مشترك في بغداد. وسيكون للقواعد التركية في شمال العراق ومحاربة العراق لحزب العمال الكردستاني، دور كبير من المفاوضات بين الجانبين، وهو ما قد يؤدي إلى توتر بين حكومتي بغداد وأربيل. وكان أردوغان قد أكد خلال المباحثات أن "تركيا لديها توقعات من العراق فيما يتعلق بمحاربة منظمة حزب العمال الكردستاني، مشدداً أنه "على العراق التخلص من كافة أشكال الإرهاب" بحسب بيان للرئاسة التركية. وفي المقابل يبحث رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني عن تعزيز لمكانته السياسية، لذلك فهو يود سحب بعض الامتيازات التي حظيت بها حكومة كردستان العراق مع أنقرة، بحيث تصبح في يد الحكومة المركزية في بغداد.
ثانياً: ملف صادرات النفط
هو من القضايا الشائكة التي تعكّر العلاقة بين البلدين باعتبار أن النفط كان يمر من إقليم كردستان إلى تركيا من دون موافقة الحكومة المركزية في بغداد وتوقّفت هذه الصادرات منذ أكثر من عام بسبب خلافات قضائية ومشاكل فنية. ويكبّد هذا التوقّف العراق إيرادات من موارده النفطية تتخطّى 14 مليار دولار، وفقاً لرابطة شركات النفط الدولية العاملة في إقليم كردستان (أبيكور). في الوقت نفسه يسعى العراق حالياً لإعادة تشغيل خط أنابيب كركوك-جيهان التركي، الذي توقف عن العمل منذ استيلاء "داعش" على أجزاء واسعة من العراق في عام 2014، والذي من شأنه أن يتيح ضخ 350 ألف برميل يومياً من النفط إلى تركيا بحلول نهاية أبريل/نيسان الحالي. وتركيا تريد دعم بغداد في إعادة تشغيل هذا الخط لما سيشكله ذلك من استفادة لجميع الأطراف العراقية وتركيا، لذلك يتوقع اتفاقية جديدة على غرار إعادة التشغيل لصالح بغداد ونفط رخيص لصالح تركيا وقد يضاف اليه بعض المزايا الاقتصادية لكردستان العراق. كما أبدت دول خليجية أخرى اهتماماً كبيراً بهذه الزيارة وهو ما قد يقود إلى اتفاقيات تجارية أكبر لدول المنطقة، وبرعاية السوداني وأردوغان تم في بغداد مراسم توقيع مذكرة تفاهم رباعية بين العراق وتركيا وقطر والإمارات، تهدف إلى التعاون المشترك بشأن "مشروع طريق التنمية" الاستراتيجي وهو شبكة بطول 1200 كيلومتر تهدف إلى ربط الخليج بتركيا عبر العراق بحلول العام 2030، مما سيجعل من السوق التركية أقرب وأوفر لدول الخليج.
ثالثاً: ملف المياه
أن كل الاتفاقيات السابقة قد لا تحقق النتائج المرجوة لبغداد إن تم إهمال ملف المياه ودون حل هذه المشكلة ستكون الاتفاقيات العراقية التركية بدون فائدة تذكر للعراق، باعتبار أن الجفاف والتغيير البيئي يشكلان تحدياً كبيراً في بلد مثل العراق يعتمد بشكل كبير على النفط ويجد صعوبةً في تنويع اقتصاده. وتمثّل الزراعة نسبة 20% من الوظائف وتعتبر ثاني أكبر مساهم في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 5%، بعد النفط. ووفق تقرير صادر عن الأمم المتحدة، يعد العراق أحد أكثر خمس دول معرضة لخطر تغير المناخ في العالم وشكلت قلة الإطلاقات المائية وتأثيرها في مناسيب نهري دجلة والفرات، وقلة المخزون الجوفي المائي مشكلة كبيرة للأمن الغذائي في العراق.
بشكل عام، تبقى التحديات العديدة أمام تحسين العلاقات بين تركيا والعراق، ولكن الجهود المشتركة والتعاون المستمر يمكن أن يساهما في بناء علاقات أكثر استقراراً وازدهاراً بين البلدين. واللافت أنّ كل هذا جاء بعد زيارة رئيس الوزراء العراقي الى واشنطن الأسبوع الماضي ما يوحي بوجود توجيهات أميركية للقيادة العراقية تقول بضرورة البدء بطريق التنمية حيث انتشر خبر في الأسبوع الماضي عن مدى انفتاح الشركات الأمريكية على العراق ورغبتها بفتح مصالح جديدة من جهة، ورفع الغطاء الأميركي عن المقاتلين الأكراد من جهة أخرى وهو ما يوضّح توقيع هذا الاتفاق الأمني ومنح الضوء الأخضر الأميركي للعملية العسكرية المزمعة ضدّ "الأكراد"…
وعلى ما يبدو أنّ الهجوم الإيراني كان محفزاً لكل هذه التحركات والتقت المصالح الأميركية مع التركية في تسريع الخطوات لمحاولة سحب المقاومة العراقية من المحور عبر الضغط الرسمي من العراق للحفاظ على "مصالح" البلد وإيجاد ذريعة للبقاء العسكري الأميركي بحجة حماية مصالحه واستخدامه ملف "الأكراد" لجذب تركيا في محاكاة لطموحات أردوغان التوسعية والتي وجد فيها أردوغان فرصة لانتصارات خارجية يحسن فيها وضعه الداخلي عقب خسارته المدوية في الانتخابات المحلية.