كانت التصريحات الأخيرة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان حيال الاحداث التي شهدها قطاع غزة -بعد العدوان الذي شنته قوات الاحتلال الإسرائيلي عليها- لافتة، خصوصًا بعد اللغة الهجومية التي اعتمدها في تغريداته على حسابه على موقع تويتر والتي وصف بها "إسرائيل" على أنها "دولة إرهابية" مدينًا الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على المسجد الأقصى.
الخطاب الأردوغاني لاقى تساؤلات كثيرة وذلك نتيجة المساعي الدائمة للإدارة التركية في تحسين العلاقات مع كيان الاحتلال والتي تبرز جليًا في العلاقات التجارية المتبادلة بين الطرفين. الباحثان في معهد دراسات الامن القومي غاليا ليندنشتراوس ورامي دانيال كتبا مقالًا تحت عنوان "حارس الأسوار من الزاوية التركية: أردوغان هو "درع فلسطين"؟" مرجحين سبب لهجة أردوغان العدائية تجاه "إسرائيل" لتحويل انتباه الجمهور التركي عن المشكلات في الساحة الداخلية.
وأشار الباحثان إلى أنه "بعد التقارير التي تحدثت في الأشهر السابقة عن رغبة أنقرة في تحسين العلاقات بين تركيا وإسرائيل، تدل التحركات التركية خلال جولة العنف على هشاشة هذه الآمال، وعلى حقيقة أن الخلافات بين القدس وأنقرة لا تزال على حالها".
النص المترجم:
طوال عملية "حارس الأسوار" كانت تركيا من بين الدول التي انتقدت السياسة الإسرائيلية بشدة. وغرّد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بالعبرية على تويتر ودان "الهجمات الشنيعة" لإسرائيل على المسجد الأقصى. وتكرر اتهام إسرائيل بـ "الدولة الإرهابية" في تصريحات متّخذي القرارات في أنقرة. وفي إطار الانتقادات التركية، اتهم أردوغان الرئيس الأميركي جو بايدن بأن "يديه ملطخة بالدماء"، في سياق موافقته على صفقة السلاح مع إسرائيل.
بالإضافة إلى الخطاب الحاد أجرى أردوغان محادثات هاتفية بشأن الوضع مع زعماء العديد من الدول، في الأساس دول العالم الإسلامي (مع الأردن والكويت وقطر والسعودية والجزائر وباكستان وماليزيا)، وأيضاً مع الرئيس الروسي، ومع البابا. كما طُرح الموضوع خلال الزيارة التي قام بها وزير الخارجية التركي إلى الرياض بعد قطيعة استمرت 4 أعوام لم تشهد مثل هذه الزيارة بسبب التوترات بين الدولتين - من بين أمور أُخرى بسبب مقتل الصحافي السعودي جمال الخاشقجي في اسطنبول. كما استغلت تركيا وجود رئيس للجمعية العمومية للأمم المتحدة تركي الجنسية للدعوة إلى عقد جلسة طارئة للجمعية لبحث الأحداث التي تجري بين إسرائيل و"حماس". وفي لجنة منظمة التعاون الإسلامي دعا وزير الخارجية التركي إلى اتخاذ خطوات ملموسة لردع إسرائيل ودعم الفلسطينيين. وتحدث مولود جاويش أوغلو عن أن العالم الإسلامي سيرسل قوة دولية إلى القدس كي لا تتكرر الأحداث التي وقعت خلال شهر أيار/مايو في المدينة. وصرّح أردوغان: "إذا وقفنا لا مبالين حيال القمع في فلسطين وسورية وليبيا وتركمانستان وكارا باخ، فسنجد الذين يتعرضون للقمع ذات يوم على عتبة أبوابنا." في أعقاب الأحداث سحبت تركيا الدعوة التي أرسلتها إلى وزير الطاقة الإسرائيلي لحضور مؤتمر أنطاليا الدبلوماسي.
يمكن النظر إلى التشديد الكبير للحكومة التركية على جولة العنف بين إسرائيل والفلسطينيين كطريقة لتحويل انتباه الجمهور التركي عن مشكلات في الساحة الداخلية. بدأت التوترات في القدس في وقت كان الوضع الداخلي في تركيا حساساً للغاية. فالدولة كانت في حالة إغلاق كامل بعد موجة تفشٍّ شديدة لوباء الكورونا، ومع وضع اقتصادي متدهور جرّاء الانخفاض في قيمة الليرة التركية، وتداعيات الأزمة الصحية، والانتقادات التي وجهتها المعارضة إلى إدارة الأزمة الاقتصادية وعملية التلقيح التي تقوم بها الحكومة. التركيز على ما يجري بين إسرائيل والفلسطينيين سمح للرئيس وللحكومة بتحويل الانتباه عن نقاش الأمور الداخلية، وحتى إسكات الانتقادات الموجهة ضدها.
لكن بالإضافة إلى محاولات استغلال جولة العنف بين إسرائيل والفلسطينيين لأغراض سياسية داخلية-تركية، فإن المجتمع التركي، في أغلبيته الساحقة، وقف إلى جانب الفلسطينيين منذ بداية المواجهات. وسائل الإعلام المحلية التي عموماً لا تغطي أحداثاً دولية في العمق خصصت الكثير من الوقت لتغطية مراحل جولة العنف، وانتهجت خطاً معادياً لإسرائيل "القاتلة". وكان هناك توافق في الآراء في المنظومة السياسية، إذ إن الأحزاب كلها انتقدت إسرائيل بشدة.
ميزتان أساسيتان مهمتان برزتا في ردة فعل المنظومة السياسية التركية على اشتعال العنف في الساحة الإسرائيلية - الفلسطينية تتطلبان انتباهاً. الأولى، على الرغم من المفردات الحادة جداً التي استُخدمت في وصف إسرائيل وفي إدانتها من طرف الأحزاب الممثلة في البرلمان التركي، فإنها لم تترافق مع دعوات إلى القضاء على إسرائيل، ولم تعبّر كلها عن إيمانها بحل الدولتين لشعبين بالاستناد إلى خطوط 1967. ثانياً، على الرغم من استخدام حركات اليسار التركي صيغاً مختلفة عن الصيغ التي استخدمتها الحكومة التركية، واستعمالها تعابير معادية للإمبريالية، إلّا إنها شاركت بصورة مطلقة في الدعوات "للدفاع عن القدس والأقصى". تدل هذه الظاهرة على نجاح الإسلام السياسي في تركيا على صعيد الوعي الذي حوّل الأقصى إلى موضوع قادر على تجنيد كل السكان الأتراك حتى هؤلاء الذين يعتبرون أنفسهم علمانيين.
على الرغم من كل الجهود الخطابية والدبلوماسية، إن تأثير أنقرة فيما يجري على الأرض خلال جولة العنف بين إسرائيل و"حماس" كان محدوداً. لم تتخذ السلطات التركية خطوات حادة للمسّ بإسرائيل: ولم يختَر الأتراك المسّ بالعلاقة التجارية بين الدولتين، فتركيا التي تتمتع بميزان تجاري إيجابي مع إسرائيل هي التي ستكون الأكثر تضرراً. وعلى الرغم من تهديدات وزير الخارجية التركي بأن الدول الإسلامية سترسل عند الحاجة قوة دولية إلى القدس، فإن إرسال قوات عسكرية محدودة، مثل سفن من سلاح البحر التركي إلى شواطئ غزة، سواء بمبادرة تركية فردية أو برعاية منظمة دولية، لا يزال سيناريو قليل الاحتمال. مع ذلك، المقارنة التي قام بها أردوغان بين ما يحدث بين إسرائيل والفلسطينيين وبين الوضع في سورية وليبيا وكارا باخ، الساحات التي تدخلت فيها تركيا عسكرياً، تستوجب انتباهاً. ليس هذا فقط، بل الدلائل الكثيرة على وجود نشطاء لـ "حماس" في تركيا التي تساعد الجهود العسكرية للحركة، تشكل مشكلة دائمة بالنسبة إلى إسرائيل. أيضاً الخطاب الحاد الذي يستخدمه مسؤولون رفيعو المستوى ووسائل الإعلام التركية له تأثير متراكم في صورة إسرائيل وحتى في داخلها وسط الجمهور العربي. بالنسبة إلى عمليات التسوية التي ستجري بعد وقف إطلاق النار، وخصوصاً إذا فشلت، ثمة حاجة إلى أن نأخذ خصائص التدخل التركي في منظومة الاعتبارات الإسرائيلية في مواجهة "حماس".
بعد التقارير التي تحدثت في الأشهر السابقة عن رغبة أنقرة في تحسين العلاقات بين تركيا وإسرائيل، تدل التحركات التركية خلال جولة العنف على هشاشة هذه الآمال، وعلى حقيقة أن الخلافات بين القدس وأنقرة لا تزال على حالها.
المصدر: معهد دراسات الامن القومي
الكاتب: غاليا ليندنشتراوس ورامي دانيال