عندما كتبنا سابقاً عن تقييم استراتيجية محور المقاومة في الحرب على غزة، أكدنا أن حالة اليمن بحاجة لدراسة منفردة، لمعرفة كيف أثّر على الردع الأميركي والغربي في البحر الأحمر، وهذا ما يدفعنا إلى طرح سؤال واضح من أجل أن نقدم إجابة مركزّة حول تأثر الردع الأميركي ـ الغربي بهذه الجبهة، خاصة أن أهمية الجبهة اليمنية في محور المقاومة أن تأثيرها ينطلق من أهمية الموقع اليمني على البحر الأحمر، حيث يتمتع بموقع إستراتيجي مميز، إذ يصل بين القارات الثلاث: آسيا وأفريقيا وأوروبا، ويربط المحيط الهندي وخليج عدن وبحر العرب بالبحر الأبيض المتوسط، فضلاً عن أهميته الاقتصادية والعسكرية إذ يمر عبره أحد أكثر طرق الملاحة البحرية الدولية حيوية في العالم، وتعتبر الدول المشاطئة له من أهم المراكز العالمية لإنتاج موارد الطاقة .
كذلك تنطلق أهمية الموقع اليمني على البحر الأحمر من مشاطئة اليمن لمضيق باب المندب، والذي يفصل البحر الأحمر عن خليج عدن والمحيط الهندي كما يفصل قارتي أفريقيا وآسيا، وتحدّه من الجانب الأفريقي جيبوتي ومن الجانب الآسيوي اليمن. وتأتي أهمية الجبهة اليمنية، من خلال منع دخول السفن التجارية وحتى العسكرية إلى الكيان الإسرائيلي عبر مضيق باب المندب، وهذا ما جعل اليمن يظهر كقوة إقليمية رئيسية ووازنة، ووضعه في صراع مباشر مع الولايات المتحدة الأميركية.
لقد انطلق العمل الأميركي من فرض إجراءات متعددة ضد اليمنيين منها اقتصادي عبر فرض عقوبات اقتصادية بعد وضع حركة أنصار الله على لائحة الإرهاب، ومنها سياسي يتعلق بالضغط السياسي على اليمنيين عبر مقاطعة أميركية غربية سياسية وتحميل اليمنيين مسؤولية ما يحصل بالملاحة في البحر الأحمر، بالإضافة إلى التصعيد العسكري عبر استهداف اليمن بغارات جوية تحت مسمى الضربات المحدودة، وذلك من أجل استعادة الردع المفقود والذي ظهر جلياً إبان العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، واتخاذ حركة أنصار الله قراراً مبدئياً بدعم الشعب اليمني ومساندته، من هنا يطرح السؤال حول قدرة الإجراءات الأميركية بردع اليمن وإيقافه عن مساندة قطاع غزة، وتالياً تظهر أهمية الجبهة اليمنية في محور المقاومة.
حاول الأميركيون فصل التصعيد في البحر الأحمر عن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، لكن هذه المحاولة فشلت، لأن اليمنيين أكدوا مراراً وتكراراً أن إنهاء العدوان في غزة سيؤدي إلى فتح البحر الحمر، وبالتالي كان يمكن للإدارة الأميركية أن تسعى إلى تحقيق الأمن الإقليمي من خلال الضغط على الاحتلال الإسرائيلي لوقف الحرب ورفع الحصار عن قطاع غزة.
وسعى الأميركيون إلى التأسيس لوجود عسكري لهم في البحر الأحمر وذلك عبر تأسيس تحالف "حارس الازدهار" لكن الدول التي أعلنت تأييدها كفرنسا وهولندا وألمانيا، عادت ونفضت يدها من العمل تحت عباءة الولايات المتحدة الأميركية، ولم يبق مع واشنطن من القوى العظمى إلا بريطانيا، والتي كان عملها رمزياً إلى حد ما، وإن عادت الدول الأوروبية للعمل منفردة تحت عباءة الاتحاد الأوروبي، وفي المحصلة هذا التحالف الهدف منه أن يكون لواشنطن تواجد دائم في البحر الأحمر، وإمكانية العمل متى تشاء تحت حجة حماية الملاحة، وذلك نتيجة استراتيجية هذا الممر المائي وخاصةً لتقليل النفوذ الروسي الصيني فيه، ولكن على الرغم من ذلك لم تمنع قوة حركة أنصار الله الصاعدة عن استهداف سفن الكيان الإسرائيلي والداعمين له.
وعلى الرغم من أن واشنطن استهدفت بحسب زعمها السلاح المستخدم من قبل أنصار الله، حيث قامت باستهداف مراكز تصنيع المسيرات ومخازن أسلحة، بالإضافة لأنظمة الرادار وأنظمة الدفاع الجوي ومواقع التخزين والصواريخ الباليستية، لكن عملياً لم تمنع هذه الضربات الموضعية عمليات اليمنيين، ولم تمنعهم عن القيام بالعمليات، بل على العكس من ذلك قام اليمنيون من استخدام أسلحة جديدة كالغواصات المسيرّة وهذا ما فاجئ الغربيين.
لقد فشلت سياسة الاستجابة للمخاطر الاستراتيجية التي تعمل وفقها الولايات المتحدة الأميركية والغرب، بعد اعتبار أن ما يقوم به اليمنيون يفرض تداعيات سلبية على سلاسل الإمداد، ويهدد أمن الملاحة البحرية، لكن عملياً لم تستطع واشنطن من تحقيق هذه الاستجابة، ولم تتمكن القوة الأميركية الغربية من حماية السفن البحرية في منطقة البحر الأحمر. بل إن الأخطر من ذلك هو عدم التمكن من تقليل نسبة التصعيد، والذي أصبح أمام خطورة أن يتسع نتيجة الضربات التي تقوم بها واشنطن، والضغط لإنهاء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، والتي بسببها سوف يستمر إغلاق البحر الأحمر أمام السفن الداعمة للكيان الإسرائيلي، ما قد يؤدي إلى حصول تحركات متصاعدة قد تُفضي إلى اشتعال الصراع واتساع رقعة الاشتباك.