تهشّم الدور الوظيفي الإسرائيلي نتيجة طوفان الأقصى، بحيث أن الدور الجزئي الذي نجحت واشنطن في تثبيته عبر اتفاقيات التطبيع والتفوق العسكري الإسرائيلي، تعرّض لضربة قوية مع الفشل الإسرائيلي وانهيار العقد الاجتماعي والردع الإسرائيلي على المستويات الأمنية والاستخباراتية والعسكرية؛ ما استدعى المبادرة والمسارعة الأمريكية لحماية الكيان. والأهم، أن التفوق العسكري الإسرائيلي، عقدة الاستراتيجية الأمريكية في ربط الدول العربية بالكيان مع الانكفاء الأمريكي النسبي نحو الشرق، تهشّم هو الآخر.
عناصر القوة الإسرائيلية المنهارة والتدخل الأميركي
إن حرمان طوفان الأقصى الكيان من عناصر القوة الأربعة لتحقيق استراتيجية الأمن القومي: الردع، والتفوق الاستخباراتي والدفاع، والنصر، رفع التهديد والمخاطر إلى درجة كبيرة إلى الحد الذي استدعى تدخل القيادة الأمريكية بشكل مباشر وشامل وغير مسبوق لإدارة المعركة والحدّ من الخسائر مع عجز النخبة الصهيونية عن ذلك. الأمر الذي يؤكّد حجم الضربة التي تلقّاها الكيان وانهيار دوره في حماية نفسه، فكيف بحماية غيره. لقد كشف الطوفان عقم دور الوكيل الوظيفي وفشل استراتيجية استقلاليته والاعتماد على نفسه، فضلًا عن كشف زيف قدرته على الهيمنة في النظام الأمني الإقليمي. لقد انهار الكيان الإسرائيلي وتخبّط بعد الطوفان، بعدما كان المعتمد الإقليمي لدى واشنطن في الحفاظ على أمن المنطقة، ومصالحها الاستراتيجية بعد تخفيف وجودها العسكري المباشر.
دول وكلاء أميركا تعيد تقييم مصالحها
لقد أصبحت دول وكلاء أميركا تقوم بخياراتها في الفترة الأخيرة بناء على رؤية مصالحها في الأعمّ الأغلب والسير ما بين الهيمنة لأمريكية المطلقة والنظام المتعدد الأقطاب، ما يظهر في تنامي العلاقات البينية المتشابكة والمتداخلة؛ كما في علاقات السعودية والإمارات تركيا مثلًا مع الصين وروسيا وإيران، مع الحفاظ على العلاقات مع الولايات المتحدة والكيان المؤقّت، وعدم قطعها. وهو ما حصل أثناء حرب غزة أيضًا حيث رأت أغلبية دول الجوار انتفاء مصلحتها في الانضمام إلى التحالف البحري الأمريكي. ويعود دافع الرفض الأساس -بعيدًا عن القول بالضغط الداخلي والمزاج الشعبي الذي ثبت هشاشته وعدم ارتقائه إلى المستوى المطلوب في وقف المجازر والإبادة والتصفية للقضية الفلسطينية- إلى الإدراك الحقيقي لدى تلك الدول بأن قدرة التهديد لمصالحها واقعية في حال انخرطت في هذا التحالف، وستعطي الطرف الآخر المشروعية النسبية لتهديد مصالحها مع الإعلان عن تحالفها في التصدّي لصواريخ نصرة غزة، كما سترفع من وتيرة مساءلة حكوماتها من قبل الشارع المحلي. بالإضافة إلى ذلك، لقد برز مع الحرب على غزة الدور المعكوس في الحماية وتقديم الدعم، حيث باتت دول المنطقة هي التي تحمي الكيان وتدعمه بدلًا من المهام التي كانت تجعل من الكيان وكيل الأمريكي الأول في القيام بالمهام الأمريكية في المنطقة لجهة "ضمان أمن المنطقة واستقرارها".
الحضور الأمريكي في المنطقة
لقد أرخى طوفان الأقصى بتداعياته الثقيلة على الدور الوظيفي للكيان في وقت عانى فيه الأخير من تفاعل ثلاثة عوامل أدخلت دولة إسرائيل ومجتمعها في حالة ضعف حقيقي: الشعبوية، والاستقطاب، وشخصنة السياسة. وطالت التأثيرات بميزان التقدير الإستراتيجي الحضور الأمريكي في المنطقة على اختلاف أشكاله (الهيبة أو الصورة المعنوية، النفوذ السياسي، الوجود العسكري المباشر والتدخل العسكري، المصالح الإستراتيجية والاقتصادية والتجارية وغيرها). وتتمحور هذه التأثيرات حول الضربة الاستراتيجية التي تلّقتها السياسة الأمريكية لجهة الدور الوظيفي للكيان الذي سعت لتعزيزه منذ منتصف ستينيات القرن الماضي، بعدما فرضت حرب النكسة (1967) الكيان كجزء من البناء الإقليمي للمنطقة وتعميق الجزئية من خلال تشريع الوجود الإسرائيلي عبر المعاهدات والاتفاقيات. وقد عملت الاستراتيجيات الأمريكية على توظيف المنطقة في إدارة صراعاتها الدولية، وربط سياسة الدول العربية بالحفاظ على أنظمتها السياسية.
بالخلاصة: فشل الكيان المؤقّت والنظام الأمني الإقليمي في القضاء على التهديدات العميقة التي تحيط بالمشروع المصطنع على أرض فلسطين، وفشلت معه سياسات واشنطن الاستراتيجية طوال العقود الماضية في تثبيت دور الكيان في النظام. الطوفان كشف فشل الكيان في الاستقلالية والاعتماد على نفسه، كما كشف فشل الهدف الأمريكي الاستراتيجي في إعداد الكيان وتأهيله لمهام ضبط إيقاع الدول في النظام الإقليمي في حال الحاجة الأمريكية إلى التوجّه نحو أولويات الشرق.
الكاتب: غرفة التحرير