الجبهة اللبنانية في معركة طوفان الأقصى: العدوّ لا يزال مكبّلًا بقواعد الاشتباك

"الحرب بالنّظارات سهل"، كثيراً ما راج في التداول الشعبي هذا التعبير الذي يسخر من محللي ومنظري الكافيات والمكاتب المكيفة، إذ يناقشون الحروب ويدلون بدلوهم في توصيف وتشريح أعقد أنواع الحروب التي تدمج بين الحرب الهجينة والحرب اللامتماثلة. ومنذ بداية طوفان الأقصى، وبعيداً عما أبرزته وسائل التواصل الاجتماعي من عقد نقص مصحوبة بجهل مركّب بألف باء الحروب، تخرج كل يوم نظرية جديدة عن مآل الوضع في غزة، فيما تخرج نظريات عن تحليل أصحاب النظارات عينهم لما يجري على الحافة الامامية في الجنوب اللبناني، إلا أن حديث الصالونات والكافيات شيء، ووقائع الميدان شيء آخر.

فماذا يجري حقيقة في الحافة الأمامية للحرب على الحدود الجنوبية اللبنانية الفلسطينية؟  في هذا الملف من إصدار مركز دراسات غرب آسيا.

أولاً: قبل "طوفان الأقصى"

في البداية لا بد من الإشارة إلى أن الوضعية العامة بصورتها الكبرى على الحدود اللبنانية الفلسطينية، اختلت بشكل كبير بعد 7 تشرين أول - اكتوبر 2023 لمصلحة المقاومة، حيث دخلت على المنطقة عناصر جديدة وتفاصيل هامة وتحولات كبيرة، لا بد من حصرها جميعاً حتى يمكن لأي متابع للوضع أن يخرج بتقييم سليم، يمكنه من التقدير الدقيق للحالة الراهنة.

منذ العام 2011، فضّل العدو بناءً على نظرية رئيس الأركان السابق غادي إيزنكوت، ترميم الردع المنهار على الجبهة اللبنانية، حيث ابتدع مبتكر نظرية الضاحية التي تنفذ اليوم في قطاع غزة، خطة لمطاولة المقاومة اللبنانية في سوريا، أسماها الحرب بين الحروب، وحيّد العدو الجبهة التي توجعه، مفضلاً العمل في جبهة مفتوحة يمكنه بسلاحه الجوي وقواته النخبوية مقارعة حزب الله، أو على أقل التقدير التأثير على حركته، إلا أن حزب الله ومع أول محاولة صهيونية للمس به في القنيطرة عام 2015، أفرغ كل مضامين "المعركة بين الحروب" من محتواها، حيث فرض قواعد اشتباك جديدة على العدو قوامها المعادلة التالية: "أي مس بجسمنا في سوريا أو أي مكان آخر، عاقبته المس بجيش العدو من لبنان، وبالقدر الذي تحدده المقاومة، وتعتبر أنه ردع العدو عن تكرار خطيئته"، وقد حاول العدو بكل حِيَلِه التملّص من هذا الإلزام وهذه القواعد الجديدة للاشتباك طوال 12 عاماً، إلا أنه كان يواجه سريعاً من المقاومة بالرد من لبنان، بداية من مزارع شبعا:

- الرد على عملية الاغتيال الجوية الصهيونية في 18 يناير 2015 التي استهدفت قافلة من سيارتين، تُقلان مجموعة من رجال المقاومة كانت تمر على طريق مزرعة الأمل بالقنيطرة، عندما أعلنت المقاومة في بيان "رقم 1"، إنه عند الساعة 11:35 من صباح 27-1-2023، قامت مجموعة "شهداء القنيطرة" الأبرار في المقاومة، باستهداف موكب عسكري إسرائيلي في مزارع شبعا المحتلة، يضم عدداً من الجنود والضباط بالأسلحة الصاروخية المناسبة، ما أدى إلى سقوط إصابات وتدمير عدد من آليات الموكب المستهدف.

- الرد على اغتيال الشهيد القائد سمير القنطار في جرمانا ليلة 19/20 كانون اول 2015، أي بعد أقل من سنة من عملية القنيطرة، حيث أعلنت المقاومة بعد 15 يوماً أنه عند الساعة 3:10 من بعد ظهر اليوم الاثنين الواقع في 4-1-2016، قامت مجموعة الشهيد القائد "سمير القنطار" في المقاومة الإسلامية، بتفجير عبوة ناسفة كبيرة على طريق زبدين – كفرا في منطقة مزارع شبعا اللبنانية المحتلة، بدورية إسرائيلية مؤللة، مما أدى إلى تدمير آلية من نوع هامر وإصابة من بداخلها.

وكانت تقوم بالرد الفوري على أي محاولة اختراق للحدود خارج مزارع شبعا:

- ليلة الثلاثاء الأربعاء 6/7 آب 2013، عندما اقتربت قوة تابعة للواء غولاني من السياج وتجهزت للعبور، وقسّم المتسلسلون عديدهم الى مجموعتين، الاولى عبرت السياج بعد ترقب لدقائق، والمجموعة الثانية كانت تهدف لتأمين الأولى، ما يعني انها بقيت في منطقة تضع الاولى تحت نظرها، إلا أن المقاومة وعند الساعة 00:40 دقيقة بعد منتصف الليل، فجرت عبوة ناسفة مربوطة بشرك من 4 عبوات صغيرة بالمجموعة الاسرائيلية الاولى، ثم فجرت العبوة الثانية والتي هي شبيهة بالعبوة الاولى بالمجموعة الاسرائيلية الثانية التي اتت لمساعدة المجموعة الاولى.

إلا أن التطور الأبرز في تثبيت قواعد جديدة للاشتباك، حصل بعد عملية استهداف أحد الأبنية في معوض بمسيرتين صهيونيتين فجر الأحد 25 آب 2019، انفجرت إحداهما وتم تعطيل الثانية، وذلك بعد ساعات قليلة من استهداف أحد مراكز حزب الله جنوب دمشق واستشهاد كادرين فنيين للمقاومة، حيث تم تطوير قواعد الاشتباك لتطال الحدود اللبنانية كلها، وتم إدخال طائرات الاستطلاع المسيرة الصهيونية ضمن القواعد الجديدة، لتصبح مهمتها محفوفة بالمخاطر، بعدما كانت تسرح وتمرح في السماء اللبنانية ، وقد ردت المقاومة على الخرقين بعملية نفذتها ضد عربة مدرعة من طراز "النمر"، وذلك ظهر يوم الاحد 1-9-2019، والثانية في عيتا الشعب في 4-9-2019، عندما اسقطت طائرة مسيرة شبيهة بالتي استهدفت بناية معوض.

حاول العدو بمساعدة امريكية خرق هذا الحظر صيف العام 2023، عندما فرضت الولايات المتحدة أواخر شهر آب 2023، قواعد اشتباك جديدة لليونيفيل في منطقة جنوب النهر، وهدد العدو استناداً لهذا التدخل الامريكي في الساحة الجنوبية اللبنانية، باغتيال كوادر فلسطينية ولبنانية رداً على عمليتي مجدو و "بأس الاحرار" وسلسلة العمليات الاستشهادية التي نفذت بالتزامن مع معركة "بأس الاحرار" في جنين، كان الرد سريعاً من قائد المقاومة بأن أي مس بأي فرد أو كادر في المقاومة اللبنانية أو الفلسطينية، أو بأي مدني لبناني أو فلسطيني في لبنان، يستلزم رداً فورياً وقاسياً.

كانت قواعد الاشتباك التي صمدت طويلاً على الساحة اللبنانية، تعني أن مئات الغارات التي نفذها سلاح الجو الصهيوني في سوريا ذهبت سدى، فحاول العدو اغتنام فرصة ما بعد عملية "طوفان الأقصى"، ليعيد صياغة قواعد اشتباك جديدة تكسر القواعد التي وضعتها قيادة المقاومة منذ العام 2015.

ثانياً: بعد "طوفان الأقصى"

ماذا حصل منذ المطاولة الأولى مع العدو في 9-10-2023 على الحافة الأمامية عند الحدود اللبنانية الفلسطينية وحتى الآن:

- تم تعطيل أي قواعد اشتباك "اسرائيلية" جديدة لليونيفيل فرضتها واشنطن، من خلال القرار الدولي 2596، الصادر في أواخر آب عام 2023، وأُعيدت اليونيفيل إلى دورها الذي كان معمولاً به قبل تسريب بند قواعد التحرك في القرار 2580 المشؤوم الصادر عام 2022.

- لم تلتزم المقاومة بأي شرط دولي يجعل منها حارس حدود "لإسرائيل"، حيث باتت مجموعات كتائب القسام تشكيل لبنان وسرايا القدس فرع لبنان وغيرها، تعمل وتتحرك بدون قيد أممي لنصرة غزة.

- مارست المقاومة الاسلامية دورها الطبيعي في الدفاع عن شعبها، بعدما زادت المدفعية الصهيونية والطائرات المسيرة وطائرات الاباتشي عدوانها على الاراضي اللبنانية.

- يستمر الجيش اللبناني في المرابطة على الحدود دفاعاً عن السيادة اللبنانية من اختراقات العدو، بعد سلسلة الاحتكاكات التي حصلت بين الجيش اللبناني وبين العدو، الذي حاول العبث في جغرافية المناطق المحررة في كفرشوبا وعلى تخوم بلدة شبعا.

- استطاعت المقاومة تحييد كل المواقع والثكنات والتجمعات التي قد تكون رأس جسر أي مبادرة هجومية قد يغامر بها العدو.

- أكدت المقاومة أن الميركافا لا زالت بعد 17 سنة، لقمة سائغة في يد الجيل الجديد من مقاتليها، وتمكنت من إبادة ما لا يقل عن كتيبة دبابات ميركافا في أقل من 10 أيام، وأثبتت أن سلاح الكورنيت "المعلوم"، لا زال في قمة تألّقه التكتيكي، ويمكنه مجددًا أن يعيد صناعة الفضيحة لجيش العدو.

- حيّدت المقاومة ما لا يقل عن 200 قتيل وجريح من جنود العدو، وألزمت العدو بزيادة أعداد حاملات "نمر" التي تعتبر دبابة ميركافا بدون برج.

- مسّت المقاومة مجدداً بخطط العدو العملياتية، حيث ارتفعت القوات التي حشدها العدو إلى ثلاث فرق مدعومة بما يوازي الفرقة من الالوية والكتائب الاقليمية المتخصصة، وكل من يعمل بالعسكر يعرف ما قيمة هذا الحشد وتأثيره السلبي على أي مبادرات أو مناورات برية في غزة وحتى في الضفة الغربية.

- استطاعت المقاومة أن تمس بشكل كبير بكل وسائط العدو التي يعتمدها للتجسس على لبنان، والتي يمكنها أن تكون وسائط تكتيكية وتعبوية أساسية في أي مناورة هجومية قد يغامر بها العدو (وسائط الجمع الحربي – الرادارات ....).

- استطاعت المقاومة فصل الجبهة اللبنانية عن جبهة غزة، وهذا يعني تعاوناً بين المقاومتين اللبنانية والفلسطينية على تحييد 40% من قوة العدو وفرض مناورة مفتوحة عليها في الشمال على الجبهة اللبنانية.

- لم تمس المقاومة إلا بجيش العدو طالما لم يستشهد مدنيين، وأعادت المقاومة اللبنانية تكبيل العدو بمضمون كل التفاهمات غير المباشرة، التي رعاها مجلس الامن ومن ورائه القوى الكبرى منذ نيسان 1996، حيث تستمر معادلة المدنيين مقابل المدنيين.

- فرضت على العدو عدم تحويل أو دمج الساحة اللبنانية أو حتى الحافة الامامية بـ "المعركة بين الحروب" الجارية في سوريا، ففي أقصى استعمال لطائرات الاباتشي والطائرات المسيرة الصهيونية المسلحة، لم يجرؤ العدو التعدي أبعد من 800 إلى 1000 متر أبعد من الحافة الامامية.

- إن ما تحقق من نتائج في الأيام العشرة الأخيرة كبير جداً، ولن يتوقف عند حدود نهاية معركة "طوفان الأقصى"، بل إنه أسّس قواعد جديدة للاشتباك، نتيجته الأولية أن المقاومة تتفوق على العدو بنسبة 8 إلى 2 في المناورة.

- بالنسبة للردع، فإن التزام العدو استراتيجياً بقواعد الاشتباك المفروضة عليه لبنانياً منذ العام 2019، يعني أن ميزان الردع ما زال مائلاً بقوة لمصلحة المقاومة، فيما يغامر العدو في أي من محاولاته لتعديل كفة الميزان، بخسارة ما تبقّى بيده من أوراق في اي لحظة.

للحصول على المقال بصيغة pdf اضغط هنا.