الخميس 14 أيلول , 2023 04:10

الإمام الخامنئي.. أفول الحضارة الغربية وصعود الحضارة الإسلامية

الإمام السيد علي الخامنئي

من نهاية خمسينيات القرن الماضي إلى نهاية الثمانينيات، لم يكن العقل السياسي الأمريكي يؤمن بنشر الديموقراطية في العالم، بل كان مهتماً فقط باستقرار الدول التي تحقق مصالحها من خلال النخب الفاسدة، وبالتالي دعمت واشنطن الطغاة والمستبدين للسيطرة على الشعوب. ذلك أنّ عدم الاستقرار كان يعني دخول الاتحاد السوفياتي من خلال الفكر اليساري لملئ الفراغ. ولكن مؤشرات انهيار الاتحاد السوفياتي جعلتهم محتاجين إلى إطار نظري جديد لشرعنة التدخل في الدول. فخرج فوكوياما، وقد كان رجلًا مؤثرًا في حقبة بوش الأب، خرج بنظرية نهاية التاريخ، التي تعتبر أن الديموقراطية الليبرالية هي أوج ما يمكن أن يحققه الفكر الإنساني، وبذلك أصبحت الديموقراطية وحقوق الإنسان هي ركيزة عمل لاشتغال وزارة الخارجية الأمريكية.

نهاية التاريخ وصراع الحضارات

الواقع أن العقل الغربي بشكل عام، المتحيّز لاستثنائيته، لا يتردد في صوغ نظريات بهدف إبهار النخب حول العالم وجعلهم يصدقون أي شيء، المهم هو تحقيق المصلحة. أفرزت السياسة الخارجية لجورج بوش الأب، في نهاية القرن العشرين، نظرية نهاية التاريخ، حيث لم يعد هناك من ينافس الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة بعدما سقطت الفاشية، ومن بعدها الاتحاد السوفياتي، وتربعت الديموقراطية الليبرالية على عرش عالم، حيث لا يمكن للعقل الإنساني ان يصل إلى أهم وأفضل من الديموقراطية الليبرالية، وبذلك وصل التاريخ الإنساني الى نهايته، وأسماها نهاية التاريخ. وحاول فوكوياما أن يستلهم من الفيلسوف الألماني هيغل الذي كان يقول بأن "التأريخ يصل إلى ذروته ونهايته في اللحظة المطلقة التي ينتصر فيها العقل النهائي"، وفوكوياما يقول، "إن انتصار الديموقراطية الليبرالية هي هذه اللحظة التي كان ينتظرها هيغل". وهكذا بدأ العمل على أمركة العالم من خلال فرض القيم الغربية على الشعوب. في المقابل، فإن للولايات المتحدة الحق في السرقة والنهب تحت عناوين المساعدة، مقابل تصدير مبادئها. أما تلك الشعوب التي تريد أن تقاوم، فلا بأس، يمكن أن نشنّ عليها حربًا حتى نعيدها إلى حضارة القرن العشرين.

الدعوة لأمركة العالم خدمة للسياسة الخارجية الأمريكية تعرضت نفسها للعديد من الانتقادات. ذلك أن قضية التفاوت بين الطبقات الغنية والفقيرة، هي مسألة جعلت الحرية مقابل المساواة، وليس صحيحًا كما ادعى فوكوياما بأن هذا التفاوت الطبقي هو إرث ما قبل الديموقراطية الليبرالية، خاصة أن النظام الرأسمالي هو الذي أذكى الطبقية والفقر.

بعد فترة أصبح لا بدّ من الاستفادة من الحركات السلفية الدينية الجهادية، والتي استخدمها الغرب لمحاربة الاتحاد السوفياتي. ومن ثمّ لتفخيخ الدول واستخدامها للحرب بالوكالة عنه. فاحتاج هؤلاء إلى إطار نظري جديد يضخّم التهديد القادم من دول الجنوب لدول الشمال، ومن الآخر بشكل عام. فنشر أستاذ فوكوياما في جامعة هارفرد صاموئيل هنتنغتون بحثًا عن صدام الحضارات وإعادة بناء النظام الدولي، الذي اعتبر أن الصراعات في الغرب في القرن السابع عشر كانت صراعات بين الأمراء والملوك الغربيين الأوروبيين، وبعد الثورة الفرنسية 1789 كانت تقوم بين الأمم والقوميات، وعندما نأتي إلى القرن العشرين أصبحت بين الأيديولوجيات الشيوعية والنازية والديموقراطية الغربية، أما اليوم (وهو يتكلم في تسعينيات القرن الماضي) فإنّ المواجهة والصدام أصبح بين الحضارات، وليس بين الدول. ويرى أن العالم المعاصر ينقسم إلى 8 حضارات هي الحضارة الغربية، والحضارة الصينية الكونفوشيوسية، والحضارة اليابانية، والحضارة الإسلامية، والحضارة الهندية، وتلك السلافية الأورثوذوكسية، والسابعة لاتينية، والثامنة أفريقية.

بحسب هنتنغتون كان السؤال الأساسي في الصراعات السابقة "مع أي طرف أنت؟". أما الآن، نتيجة تحول الصراع إلى تكتلات حضارية أصبح السؤال هو "من أنت؟"، فصار الصراع قيميًا ثقافيًا وليس على ركائز اقتصادية ومصالح دولية وغيرها من نقاط قوة الدول، لينتهي بالقول إنّ التهديد الأساسي للحضارة الغربية هو التحالف الذي يكون بين حضارتين: وهما الحضارة الإسلامية والحضارة الصينية الكونفوشيوسية.

الملاحظ أن هناك تناقضاً بين النظريتين، فوكوياما يقول ان ثقافته انتصرت وأن على العالم أن يتأسى بنا، بينما هنتنغتون يقول نحن لم ننتصر نهائيًا، بل نحن نعيش تحدٍّ جديد. نحن مرشحون لحروب جديدة لكنها بين حضارات وليس بين دول، نفس التناقض هذا يظهر نقاط الضعف في الأطروحتين، ينفع أن ما قاله الأول رد على الثاني والعكس صحيح، وكلاهما تعرضتا لانتقادات. وقد أثبتت الوقائع المعاصرة أن الصراعات والحروب الناعمة والصلبة هي بين الحضارة الواحدة، وخاصة في أوروبا التي تشهد صراع قوميات، وصراع بين اليمين واليسار.

الديموقراطية الليبرالية ليست أفضل ما انتجه العقل الإنساني

وهكذا، نجد في التطبيق العملي لهاتين النظريتين، أن الحضارة الغربية اليوم تستخدم الثقافة والقيم كأداة للسيطرة على العالم، ولعلّ فوكوياما لم يكن مخطئًا عندما قال إن الديموقراطية الليبرالية هي أفضل ما يمكن أن ينتجه العقل، لكنه أخطأ وكان متحيزًا عندما اختزل كل العقول بعقل الحضارة الغربية، فعممها على العقل الإنساني. وكان حريًا به أن يقول إنها أفضل ما يمكن أن تنتجه الحضارة الغربية حصرًا. وهنا نُحيل إلى الفصول الأخيرة من كتاب فوكوياما التي تحدّثت عمّا ستنتجه هذه الأيديولوجيا من عدم مساواة اقتصادية وجريمة وتعاطٍ للمخدرات. وعلى المستوى الأعمق يتساءل فوكوياما عمّا إذا كانت الوفرة المادية وسلامة وأمن الديموقراطيات الليبرالية ستنتج ما يسمى بـ "آخر الرجال" الذين تنبأ لهم الفلاسفة الغربيون وعلى رأسهم نيتشه. فهؤلاء أفراد سلبيون يركزون فقط على وسائل الراحة المادية بدلًا من المخاطرة والعواطف الإبداعية العظيمة التي جعلت البشر عظماء في الماضي.

جوزيف ناي: أمريكا ستنتهي والمستقبل في آسيا

إن الحضارة الغربية بدأت التبلور في القرن الرابع عشر بعد انتهاء القرون الوسطى، إلى أن تطور هذا المشروع في القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر وأنتج الديموقراطية الليبرالية، وفي القرن العشرين سيطرت وحكمت العالم، والآن هي في مسيرها إلى الانحدار والفشل. ويتنبأ المفكرون الغربيون أيضًا بأنّ المشروع الغربي يعيش عصره الأخير، منهم جوزيف ناي في كتابه "مستقبل القوة في القرن الواحد والعشرين" الذي يعتبر أن أمريكا ستنتهي والمستقبل سينتقل إلى آسيا الشرقية. على أنّ تحليل جوزيف ناي هو من منطلق اقتصادي صرف، باعتبار أن الاقتصاد هو ركيزة أي حضارة. ولكن النواميس التاريخية أثبتت أن القوة هي لمن يملك مشروعًا وفكرًا ومعالمَ حضارية قابلة للتطبيق. وهذا المشروع الحضاري موجود في الثقافة الإسلامية التي حذّر منها هنتنغتون. وهو نفسه مشروع الإمام الراحل مفجر الثورة الإسلامية روح الله الخميني، ويتبناه قائد الثورة الإسلامية السيد علي خامنئي.

الإمام الخامنئي: الخط العام الذي نتجه نحوه هو الحضارة الإسلامية

من خطابه في ملتقى للأساتذة والفضلاء وطلاب الحوزة العلمية في قم في مدرسة الفيضية قبل 25 عامًا، يسأل السيد علي خامنئي "ما هو الخط العام للنظام الإسلامي؟ وماذا نريد أن نحقق؟"، ويجيب إنّ الخط العام الذي نتّجه نحوه هو تحقيق الحضارة الإسلامية، وهذا جواب عام ويستدعي الشرح. بلا شك إن الحضارة الإسلامية قابلة للتحقيق على نفس المناهج والأساليب التي تحققت فيها الحضارات الكبيرة في العالم. وبدأت من منطقة صغيرة ثم اتسعت شيئًا فشيئًا. وبالطبع واجهت تحديات ومشاكل، لكنها بالنهاية تحققت. وهذا المسير المليء بالصعوبات، لا بد أن نسير فيه لكي نحقق الحضارة الإسلامية. وهذا هدف يذكره السيد الخامنئي للثورة الإسلامية في النظام العالمي الحالي، والذي كان في ذروة قوته في وقت انتصار الثورة، وكان أمامه عدة خيارات:

-الأول، هو تحقيق المشروع الغربي من خلال الانصهار بالقيم الغربية.

-الثاني، هو مشروع إعلان أن كل ما يمتّ إلى الغرب بصلة هو كفر وإلحاد وزندقة وبالتالي التكفير والهجرة إلى الكهوف والجبال كما هو مشروع السلفية الجهادية.

-الثالث، هو مشروع من يسمون أنفسهم بالإسلام المعتدل بأن نأخذ من الغرب ونطبق قيمهم، ولكن بظاهر إسلامي كما هو المشروع التركي والمشروع السعودي مؤخرًا، وبالتالي حضارة تابعة للغرب.

-وأخيرًا، مشروع حضاري إسلامي بالشكل والمضمون، وصناعة أمة صالحة مطمئنة قادرة وشاهدة على الأمم لا تشبه "آخر الرجال" الذين ستنتهي إليهم الحضارة الغربية. وهو مشروعٌ ليس فيه التقاط. لا في المبادئ ولا الأسس. فالمصادر وكبرى القواعد والقضايا مأخوذة من الإسلام المحمدي الأصيل وهذا ممكن التطبيق.

ويتبلور مشروع الإحياء الحضاري هذا في مشروع محور المقاومة الإسلامية، وما وراء هذا المحور هو صناعة أمة. من خلال العبور بعدة مراحل: انتصار الثورة، ثم بناء الدولة من خلال النظام الثوري والحكومة الثورية، وصولاً الى المجتمع الإسلامي، وانتهاءً بالحضارة الإسلامية، ولا يخفى أن حقيقة الصراع والنزاع اليوم بين هذا المحور وبين الاستكبار العالمي والغرب هو صراع ونزاع حضاري. لكن ليس من نمط الصراع الحضاري الذي تحدث عنه هنتنغتون، خاصة أنّ الحضارات الثمانية التي أشار إليها أغلبها ليس لديها مشروع حضاري، بل هو مشروع سياسي واقتصادي.

كيف تتحقق الحضارة الإسلامية بشكلها الكامل؟

ثم في كلام لقائد الثورة في عام 2016 مع جمع لطلاب الجامعات، تحدث عن مجموعة الطموحات التي نسعى إلى تحقيقها، أولاً تحقيق المجتمع الإسلامي يعني إحياء فكر الإسلام السياسي. فخلال القرون الماضية سعوا إلى تفريغ الإسلام من حيويته السياسية، وحاولوا بكل جهودهم أن يحصروا الإسلام بالقضايا الشخصية، ويجمدوها في قضايا جزئية لا قيمة لها، الأديان الإلهية جاءت لتُطبق في المجتمع وهذا الحدث ينبغي أن يطبق في زماننا. وقمة هذه الطموحات هو تحقيق الحضارة الإسلامية بشكلها الكامل في عصر ظهور المخلّص، وهو الإمام المهدي (عج)، ولطالما تحدثت مراكز الفكر الغربية عن المهدوية كمرتكز أساسي للأيديولوجيا الإسلامية وخاصة الشيعية، وتحدّث عنها المفكر الروسي ألكسندر دوغين كمحفز أساسي للحضارة الإسلامية، التي ستضع البشرية أما حضارة عادلة بإمكانها تحريك الإنسان بسرعة، وبعمق.

مضمون الحضارة الإسلامية؟

أما آليات وتقنيات ومضمون الحضارة الإسلامية فهو كغيرها من الحضارات: العلم، الإبداع والتطوير، الصناعة، الاقتصاد، القوة السياسية، القوة الأمنية والعسكرية، القوة الدولية، الإعلام، وغيرها. لكن في المضمون الحضاري، ثمة نمط حياة وهو نمط الحياة الإسلامي الذي يركّز عليه السيد الخامنئي في أغلب محاضراته وتوصياته خاصة للشباب: بناء الأسرة، نمط الزواج الإسلامي، نمط البناء والإعمار، نوع اللباس ونوعية الاستهلاك، الأكل والطبخ والترفيه والكتابة والخط، اللغة، العمل، السلوك في محل العمل، السلوك في الجامعات، حتى السلوك في النشاط السياسي، والرياضي، السلوك في الإعلام، مع الوالد والوالدة، وهذا المضمون الحضاري يتحقق من خلال عناصر في فكر الإمام الخامنئي، أولها اجتهاد الفقهاء على ضوء القرآن والسنة، مع الأخذ بعين الاعتبار متطلبات العصر، والزمان والمكان، ودورهما في الاجتهاد وتطويره، من خلال أسلمة العلوم الإنسانية. والعنصر الثاني هو استخدام التقنيات والعلوم والفنون العصرية الجديدة وإضفاء تجربة جديدة لها وتطوير هذه العلوم. والتوليف بين العلم والإيمان، إذ يعتقد السيد الخامنئي أن حضارة الغرب هي العلم بلا ايمان. وهي في مسيرها نحو الانحدار والشواهد كثيرة على ذلك. وفي حين أن الايمان بلا علم هو تخلف، وعلم بلا ايمان جريمة، فإن العلم مع الإيمان هو حضارة إسلامية، والحضارة الإسلامية تحتاج إلى دعم، والمقاومة هي الآلية للدعم. لذا بثلاثية العلم والايمان والمقاومة نتجه نحو تحقيق الحضارة الإسلامية.


الكاتب:

زينب عقيل

- ماستر بحثي في علوم الإعلام والاتصال.

- دبلوم صحافة.

- دبلوم علوم اجتماعية. 




روزنامة المحور