شكّل توقيع الاتفاق السعودي الإيراني برعاية صينية، مفاجأة لكثيرين خاصة بعد سنوات من العداء الذي أظهرته الرياض باتجاه طهران وارتكاب النظام السعودي كل ما يضر بمبادئ حسن الجوار مع شعوب المنطقة وقيامه بانتهاكات وتدخلات في عدة بلدان من اليمن الى سوريا مروراً بالعراق وإيران وصولا إلى لبنان.
ولكن منذ العام 2011 وما تبعها من أحداث أثبتت فشل كل الرهانات والخيارات السعودية وبالتحديد اكثر منذ وصول الملك سلمان ومن خلفه ابنه محمد الى موقع اتخاذ القرار، والعمل على إزاحة كل من يعارضه في الداخل وفي العائلة الحاكمة لا سيما وليد العهد السابق محمد بن نايف وما يعانيه حتى اليوم من الاعتقال والانباء التي تتسرب عن تعرضه لأبشع صنوف التعذيب، رغم كل ذلك لم تحقق الرياض وولي العهد الطامح بالجلوس على كرسي الملك في مملكة آل سعود أي انتصارات او إنجازات تسجل باسمه في أي ساحة من الساحات التي تدخلت بها بلاده ولا في أي ملف من الملفات.
والمتابع خلال السنوات الماضية لأسلوب عمل النظام السعودي وعلى رأسه صاحب القرار الفعلي فيه أي محمد بن سلمان، يكتشف مدى الانتكاسات التي تحققت في مختلف الملفات، بل يمكن ملاحظة ان السعودية تتخذ غالبا قرارها بالإقدام على تصرف معين ومن ثم بعد الفشل تعمل للتراجع على الرغم من الأكلاف الباهظة التي تتكبدها على مختلف المستويات، وهنا لا بد من الإشارة الى عدة أمثلة منها:
-اتخاذ القرار بشن عدوان على اليمن ومحاولة أخذ غطاء عربي وإسلامي في ذلك عبر الإعلان عن حلف سرعان ما اضمحل، وبقيت السعودية تواجه الشعب والجيش واللجان الشعبية في اليمن، وتكبدت خسائر فادحة بشريا ماليا، وعلى الرغم من المكابرة لسنوات طويلة نراها اليوم تحت عناوين مختلفة تتراجع وتنزل "عن الشجرة" التي صعدت عليها بقرارات متهورة من محمد بن سلمان.
-بُعيد انطلاق الحرب الكونية ضد سوريا في العام 2011 انغمست فيها السعودية وخلفها العديد من الأنظمة الخليجية، وتمّ دعم الجماعات الإرهابية التكفيرية الوهابية بالمال والسلاح، ناهيك عن إرسال الشباب السعودي إلى أرض الشام، وعملت السعودية وغيرها من الأنظمة العربية على تجميد عضوية سورية بالجامعة العربية، وبعد فشل المؤامرة ضد سوريا وانتصارها على العدوان، عاد النظام السعودي لتحسين علاقته بدمشق لتعود العلاقات الى طبيعتها ويستقبل ابن سلمان الرئيس بشار الأسد في الرياض خلال القمة العربية مع ما يحمله ذلك من اعتراف بالهزيمة لكل من تآمر على سوريا.
-في الملف اللبناني، الجميع لاحظ كيف ان ابن سلمان قرر الابتعاد عن لبنان وتجميد دعمه وعدم التدخل في الملفات السياسية فيه ورفع السقف ضده عبر اعتقال رئيس الحكومة السابق سعد الدين الحريري في سابقة غير اعتيادية في العلاقات الدولية، ثم تعمد ابن سلمان إبعاد الحريري عن العمل السياسي وجعل السُنّة في لبنان بدون مرجعية سياسية واضحة.
وقد شارك النظام السعودي بتشديد الحصار الاقتصادي على لبنان عبر سلسلة من الاجراءات التي اتخذها في محاولة منه(وضمنا من الإدارة الاميركية) للحصول على تنازلات من قبل بعض القوى اللبنانية على رأسها المقاومة الامر الذي لم يحصل، وبعد الفشل في كل ذلك وظهور ان من يتضرر هم حلفاء أميركا والسعودية، نرى الأخيرة عادت بشكل او بآخر الى تليين العلاقات مع القوى المحلية في لبنان وهذا ما يظهر من الإيجابية المستجدة للسفير السعودي وليد البخاري خاصة بملف الاستحقاق الرئاسي واستقباله المرشح الرئاسي رئيس "تيار المردة" سليمان فرنجية، والتأكيد ان الرياض لا تضع "فيتو" على أحد بالوصول الى قصر بعبدا.
-لطالما حاول ابن سلمان معاداة المقاومة الفلسطينية ومحاربتها، وقد تجلى ذلك في اعتقال قيادات حركة "حماس" في السعودية، وسبق ان أعلن ابن سلمان ان القضية الفلسطينية ليست أولوية بالنسبة له، ما فتح الباب سريعا امام تطبيع بعض الأنظمة الخليجية للعلاقات مع العدو الإسرائيلي، ناهيك عن التسريبات الإعلامية التي تخرج بين الفترة والاخرى عن علاقات سرية تقام بين السعودية وكيان العدو، رغم كل ذلك نرى ان المقاومة الفلسطينية تتطور بدعم من محور المقاومة وإيران.
-ما سبق هو غيض من فيض الفشل السعودي في المنطقة، ليتكرس بالتأكيد الفشل بمعاداة إيران وإضعافها، فمحور المقاومة الذي تعتبر الجمهورية الإسلامية أحد أهم أركانه والداعم الاول لكل دوله وفصائله وأحزابه وحركاته، يزداد حضورا وقوة ومنعة.
وفيما حاولت الرياض عبر العلاقة مع الادارة الاميركية السابقة إفشال الاتفاق النووي مع ايران، والتهديد بشن ضربات ضدها وتشديد الحصار عليها، بالإضافة الى افتعال بعض الفتن والاضطرابات الداخلية وتنفيذ اغتيالات لعلماء وقيادات بين الفينة والاخرى، رغم كل ذلك نرى ان ايران بقيت ثابتة ومقتدرة، ونرى العالم يحاول التقرب منها وفتح العلاقات معها، وبالسياق، بدأت الانباء عن حصول تواصل أميركي إيراني غير مباشر عبر سلطنة عُمان لإعادة تفعيل الاتفاق النووي، وبالتوازي حصل التراجع السعودي وبعد كل السقوف العالية ضد إيران عادت الرياض لإبرام اتفاق مع طهران في بكين ليبدأ الحديث عن عودة العلاقات الطبيعية وأهمية حسن الجوار بين البلدين، وبداية فصل جديد من العلاقات الخليجية الإيرانية، والتفاهم على إنشاء منتدى للحوار والتعاون الإقليمي بين إيران ودول الخليج،.. وهكذا نزل محمد بن سلمان من عالم الخيال والمجردات الى عالم الواقع والحقائق، التي تفرضها الجغرافيا السياسية، وموازين القوى الإقليمية، والنظام العالمي الجديد.
الكاتب: غرفة التحرير