يواجه كيان الإحتلال الإسرائيلي منذ انطلاق عدوانه العسكري على غزة، ارتباكاً وتخبطاً لافتا، جعله يواجه تحديات غير مسبوقة، خلال 73 سنة من ذكرى قيامه. ما دفع ببعض المعلقين و المحللين الإسرائيليين الى القول، بأنهم يعيشون ما يسموه في ثقافتهم ب "الخراب الثالث"، وأن (الدولة) التي بناها زعيمهم التاريخي "ديفيد بن غوريون"، هدمها رئيس وزرائهم الحالي "بنيامين نتنياهو".
ولد هذا الارتباك الاستراتيجي من عدة إخفاقات، لم تكن في حسبان نتنياهو وادارته، حينما قرروا بدء العملية العسكرية، فشمل الارتباك نواحي عديدة: استخباراتية وعسكرية، جبهات مواجهة جديدة، جبهة داخلية هشة على مختلف الصعد.
الارتباك الاستخباري والعسكري
فمن الناحية العسكرية، لم يتمكن جيش الإحتلال الإسرائيلي، خلال 6 أيام من بدء العملية من أي نجاحات استراتيجية أو تكتيكية، وفق منهجيته العسكرية الجديدة المسماة " الأيام القتالية". فوضع لعملية "حامي الأسوار" أهدافاً كبيرة لتحقيقها، خلال مدة أقصر من العمليات السابقة، لكن مع قرب انتهاء الأسبوع الأول منها، تمكنت المقاومة الفلسطينية من استخدام ميزة المفاجأة على أكمل وجه، حيث كشفت سلسلة من الإخفاقات الإستخبارية والعسكرية هي:
_ فشل تقدير موقف المقاومة من استعدادها للعملية العسكرية: فالمجمع الاستخباراتي الإسرائيلي المسؤول عن تقديم التقديرات للمجلس الأمني المصغر، توقع بأن المقاومين في غزة، لا يرغبون بجولة قتالية بسبب الظروف الصعبة الإقتصادية والصحية، متناسين أن قيادات جميع الفصائل، حذرت الإحتلال سابقاً عبر الكثير من التجارب الصاروخية العلنية، والمناورة العسكرية المشتركة "الركن الشديد".
_ نجحت المقاومة في تضليل كيان الإحتلال، الذي لم يكن يتوقع أن توجه أولى الضربات الصاروخية الكثيفة باتجاه مدينة القدس المحتلة، وفي اول يوم من أيام العملية اي الاثنين، ما تسبب في صدمة لدى صناع القرار السياسيين والعسكريين.
_ تمكنت المقاومة من تنفيذ تهديداتها السابقة، بقصف مدن وأهداف بعيدة المدى حتى 250 كلم. لتتخطى بذلك جميع منظومات القبة الحديدية، وتجبرالمناطق الرئيسية في الكيان مثل العاصمة "تل أبيب" و"غوش دان"، على الإغلاق الشامل ونزول السكان إلى الملاجئ. كما استطاعت التسبب بتعطل المرافق الرئيسية من المطارات والمنشآت النفطية، مثل إغلاق مطار بن غوريون (لأول مرة بسبب تهديد عسكري)، وصورة إحتراق خزان النفط في محطة توليد الكهرباء بعسقلان، ما شكل أحداثاً أكبر بكثير من توقعات العسكريين والسياسيين الإسرائيليين.
_ ورغم تنفيذ جيش الاحتلال أكثر من 1000 غارة جوية على القطاع، فإنه لم يستطع استهداف قدرات المقاومة العسكرية: القيادات المركزية، البنية التحتية واللوجستية، القدرات النوعية. فالمقاومة تدخل كل يوم وبتخطيط مدروس، أنواع جديدة من القدرات المختلفة، التي فاجأت كل المتابعين، ومؤكدة أنه ما زال بحوزتها الكثير من القدرات غير المعلن عنها. كما أن إعلان المتحدث باسم كتائب القسام أبو عبيدة، أن المقاومة أعدت نفسها لقصف تل ابيب لمدة 6 أشهر وبشكل متواصل، يؤكد فشل بنك الأهداف الإسرائيلي، ما دفعها إلى اتخاذ استراتيجية جديدة بقصف الأبراج السكنية، لكي ترمم ردعها الإعلامي.
_ فشل منظومات الرصد والاستطلاع، خصوصاً الطائرات بدون طيار الإسرائيلية، في كشف مواقع إطلاق وتخزين الصواريخ، رغم أنها تتواجد بشكل كثيف ودائم في أجواء القطاع، بالتزامن مع إعلان فصائل المقاومة لمواعيد إطلاقهم الصواريخ.
جبهات مواجهة جديدة
منذ اندلاع الأحداث في القدس وغزة، برز تطور جديد أربك "إسرائيل"، عبر تحركات الفلسطينيين الغاضبة في منطقة الخط الاخضر والضفة، وفي المظاهرات الداعمة للقضية الفلسطينية التي جرت على الحدود الأردنية واللبنانية، ما جعل الكيان يواجه جبهات جديدة، أربكت جيشه وقواه الأمنية.
_ منطقة الخط الأخضر والضفة: تشهد مناطق الخط الأخضر منذ الإثنين، تحركات فلسطينية غاضبة في اللد والرملة وحيفا ويافا والقدس، ضد المستوطنين ومنازلهم ومحالهم التجارية والفنادق، ما أوقع أجهزة أمن في عجز أمام هذه الأحداث، التي لم تواجه مثلها من قبل، ودفع بوزير الحرب غانتس لأن يعلن الطوارئ، ويستقدم تعزيزات من "حرس الحدود".
وقد وصف رئيس الكيان هذه الأحداث، بأنها بوادر "حرب أهلية"، فيما وصفها نتنياهو بالأمس، بأنها أحداث خطيرة جداً.
أما الضفة فقد شاركت في المواجهات مع قوات الإحتلال الإسرائيلي، في أكثر من 200 مكان في وقت واحد.
لذلك اعتبر رئيس المكتب السياسي لحماس إسماعيل هنية بالأمس، أنه تم إزالة الفواصل الجغرافية داخل فلسطين التاريخية، والذي أسقط نظريتا دايتون وأوسلو، وأسقط التعاون الأمني بين السلطة والإحتلال.
_ مظاهرات داعمة للقضية الفلسطينية على الحدود الأردنية واللبنانية لفلسطين:
فقد شارك مئات الأردنيين، في اليومين الماضيين، في وقفة احتجاجية قرب حدود بلادهم مع فلسطين، تنديدا باعتداءات الإسرائيلية على الفلسطينيين. وجرت هذه الوقفة في منطقة الأغوار الجنوبية، وشهدت حدوث تدافعات واشتباكات مع قوات أمن الإحتلال.
وبالتزامن أيضاً في لبنان، فقد تظاهر مئات اللبنانيين المنددين بالعدوان الإسرائيلي، عند الحدود اللبنانية الفلسطينية، في بلدات كفركلا والعديسة، وشهدت المظاهرات اشتباكات بين الشبان والجنود، أسفرت عن استشهاد الشاب محمد طحان، وإصابة العديد من الشبان، وفرضت على جيش الإحتلال الإستنفار، وأخذ الإجراءات الإحتياطية.
جبهة داخلية هشة
بعد 6 أيام من العملية العسكرية، كشفت الجبهة الداخلية لكيان الإحتلال، أنها هشة أمام أي مواجهة عسكرية، وأن ما كانت تعيشه من أمان خلال المواجهات السابقة، ما هو إلى سراب أمام تطور القدرات النوعية للمقاومة.
_ العجز المالي: فوفق الإحصاءات الإسرائيلية، فإن الأضرار المباشرة وغير المباشرة التي لحقت بالجبهة الداخلية، تفوق الأضرار التي نجمت عن العمليات السابقة، وقدرت التعويضات المدفوعة حتى الآن بأكثر من مليار و200 مليون شيكل.
أما التكلفة المادية لنفقات جيش الإحتلال، بما في ذلك نفقات التسلح والتجنيد، فقدرت بما يزيد عن مليار ونصف المليار شيكل، والتي تتزايد بمعدل مرتفع في كل يوم من أيام القتال.
كما أجرت وزارة المالية للإحتلال نقاشاً حول نفقات وتكاليف العملية، يرجح محللون إسرائيليون أن تسفر عن صرف مليارات الشواقل، إلى الجيش والقوى الأمنية والمجالس الإستيطانية، الأمر الذي سيزيد من التكاليف الإضافية الباهظة، على ميزانية الكيان، الذي ما زال يعاني من عجز مرتفع، بسبب الأزمة الاقتصادية الحادة الناجمة عن فيروس كورونا.
_ فشل سياسات الإيواء الطارئة: فحكومة الإحتلال لم تنفذ حتى الآن، ما يسمى "برنامج استضافة العائلات" في الفنادق، التي تم تجهيزها لمثل هذه الحالات الطارئة، ما اضطر المستوطنين إلى التجول والبحث عن مأوى لهم.
كما كشفت الأضرار التي لحقت ببعض الملاجئ، وما رافق الهروب إليها من إصابات عديدة، على فشل هذه السياسة في حماية المستوطنين، الأمر الذي دفعهم للنزوح إلى مناطق بعيدة، وإظهار الشكوى ضد حكومتهم.
وانتشرت الكثير من مقاطع الفيديو والمقالات، التي يتحدث فيها الإسرائيليون عن رغبتهم بالهجرة، و ينتقدون الأوضاع التي وصلوا إليها، وينصحون من يفكر بالعيش في الكيان بعدم المجيء، لأن "الوطن الموعود" ما هو إلا كذبة.
الكاتب: غرفة التحرير