تعود ظاهرةُ الكتابة والرّسم على الجدران (الغرافيتي)، بمعناها الاحتجاجي الحديث؛ إلى فترةِ السّتينيّات من القرن العشرين، وهي فترةٌ شهدت موجاتٌ متنوّعة من الخروج على الأنساق والأشكالِ والنّظم السّلطويّة. أخذت هذه الظّاهرة، منذ البداية، معناها المتمرّد عبر فعْل الاستيلاء على الفضاء العام، والاستحواذ على مساحةٍ مفتوحة يُفترَضُ أنّها تخضعُ لهيمنةِ السّلطات. لم يقتصر الأمر على تقديم الرّسائل المحدودة والمباشرة، بل تشاكلَ ذلك مع ابتكار أشكالٍ تعبيريّة جديدة، وما يُعْرَف بفنِّ الشّارع، ممّا يُمكن تصنيفه ضمن "التّاريخ من أسفل"، أي تجاوزَ ذلك مجرّد الرّسم والكتابة على الجدران، إلى أداء أدوار احتجاجيّةٍ وسْط النّاس، وتحريض الأطراف (العموم المهمّش) على تحدّي ما يُفرَض عليهم من أنماط وقوانين تخدم سلطة المركز. كما يبدو أنّ فنونا أخرى - تحمل ذات هويّة التمرّد والتحرّر من الخطاب الرّسمي – ساهمت في توسيع استخدامات الجدران والشّوارع والسّاحات العامّة، عبر إضفاء إسهامات فنيّة مجهولة المالك أو غير معروفة المصدر الأصلي، من قبيل أشكال الغناء والموسيقى التي ارتبطت باحتجاجات السّود في السّتينيات.
الجداريّات والسّاحات: من التّوريّة إلى الثّوريّة
كان من الطّبيعي أن يهتمّ البحرانيّون بالجدران والشّوارع والسّاحاتِ المفتوحة، لأنّها الفضاء الأرحب الذي يُتيح لهم التّعبير عن آرائهم ومشاعرهم وفنونهم وطقوسهم غير المسموح لها في الفضاءات الرّسميّة. تأسّسَ ذلك على اعتباراتٍ تاريخيّة وموضوعيّة، فالمواطنون الأصليّون ممنوعون من التّمثيل والظّهور في الإعلام الحكومي، وهم يتعرّضون على الدّوام لتنمُّر وتنميطٍ سلبي استهدفَ ثقافتهم وعاداتهم ولهجاتهم المحليّة، فضلا عن الإقصاءِ والتّهميش المنظّم ضدّهم في الحياة السّياسيّة والاجتماعيّة والعامّة. وفي حين أنّ هناك مؤسّسات تلبّي جانبا من وظائف التّعبير عن آراء وانتماءات المواطنين، مثل المآتم والمساجد، إلاّ أنّ المواطنين كانوا دوما في حاجةٍ للخروج إلى السّاحاتِ المفتوحة لإطلاق المواقف، وبما يتناسبُ مع العمل الاحتجاجي الحرّ والمتحرّر من قوانين الضّبط والهيمنة وكذلك موازين القوّة غير العادلة، حيث تُؤمِّن هذه السّاحاتُ الانتقالَ من التّورية، إلى الثّوريّة في التّعبير عن الآراء، كما تستفيد من خصائص الاحتجاج الحرّ (أي: غموض المصدر، سريّة الحراك، والانتشار المادي والاجتماعي بالنّاس) للتملُّص من سرعة الانتقام السّلطويّ وسهولة الانكشاف والإجهاز السّريع عليه. كذلك أسْهمَ هذا الاحتجاج في تسهيل الخروج على السّقوفِ المفروضة، إضافة إلى القيام بدور آخر أكثر وظيفيّة وذلك بتجريب إطلاق شعاراتٍ ثوريّة تُسرِّع، في كثيرٍ من الأحيان، من إنعاشِ الاحتجاج العلني، وتجدُّد المعنويّات بين الجمهور، وتستخف بإكراهات السّلطة وقمعها، وأيضا في توفير عناصر ضغطٍ (مجّانيّة) بيد قوى المعارضة المعنيّة بالتّفاوضِ مع السّلطة.
ساحات الاحتجاج: صورة ١٩٤٨
يمكن بناء سرديّة الاحتجاج المفتوح في البحرين من خلال تتبُّع السّيرة المتطوّرة ٍمن الأشكال والأنماط المبتكرة التي طبعها المحتجّون على الجدران، وفي الشّوارع، ووسط السّاحات. وبالارتكاز على ميزة السّاحات المفتوحة، والتشكُّل المتمايز حولها؛ كان هذا اللّون من الاحتجاج معنيّا بتمديد المدلول السّياسي من ناحية، وبتوثيق الموقف الشّعبي من ناحيةٍ أخرى. عل سبيل المثال، توفّر الصّورة المؤرّخة بتاريخ ١٩٤٨م توثيقا لموقف البحرانيين من الاحتلال الصّهيوني لفلسطين. تُظهر الصّورة نخبةً من المواطنين، من السّنابس والمنامة، يرتدون ملابس عسكريّة وهم يحملون بنادق، مجتمعين في مكانٍ عام يُشبه مزرعة نخيل ببلدة السّنابس، وخلفهم مواطنون بلباس محلّي. كان يمكن أن تخضع الصّورة لاحتمالات وتأويلات أو تحريفات معيّنة، إلا أنّها ضبطت معناها الأصلي مع تنبُّه المجتمعين بحمْل لافتة كُتب عليها: "نحن البحرينيين نفدي فلسطين والعرب وكل المسلمين"، وتصدُّرها وسط الصّورة. وقد كان القصد واضحا في تبليغ محتوى اليافطة والأجواء المحيطة بها، كما يُوشّر على ذلك وجود أكثر من صورة لهذا الحدث، وتنوُّع وضعيّة المجتمعين فيها. فهناك صورة أظهرتهم ملتفّين وقوفا حول اليافطة، وصورة أخرى ظهروا فيها وهم في وضعيّةٍ عسكريّة على الأرض موجّهين بنادقهم إلى الأمام، واليافطة منصوبة خلفهم. في موضوع فلسطين ذاته، وفى هذه الأيام، تعطي اللافتات والرسومات والكتابات التي يحملها البحرانيّون في ساحات الاحتجاج؛ الوظيفة ذاتها التي تولّتها لافتة السّنابس قبل أكثر من ٧٥ عاما، حيث يعبّرون عن المفاصلة عن موقف السّلطة المطبّعة مع الكيان الصّهيوني، وإظهارهم الاستعداد والجهوزيّة لتلبية نداء المقاومة لتحرير فلسطين.
تنوّع طرائق الجداريّات والرّسومات
إنّ الجداريّات هي تمثيل رمزيّ للموقف الاحتجاجيّ، وتعبّر عن رأي ممنوع أو موقف معارض للسّلطة، وعادة ما يختار المنفّذون ساحات عامّةً مفتوحة للجميع، لتكون رسائل الجداريّة متوفّرة للمارّة والعابرين، ولإعلان التّحدي للسّلطة والمناورة عليها في المجال العمومي الذي يعبّر، بدوره، عن مظهرٍ آخر من الصّراع والمفاصلة بين المحتجين والسّلطة.
وقد فعّلت ثورةُ البحرين، على مدى أعوامها، هذه الأداة بطرائق متنوّعة، وبحسب المناسبات وتطوّرات الأحداث وبما يتلاءم مع الظّروف الأمنيّة على الأرض. فقد لجأ المحتجّون إلى توسيع هذه الأداة وأشكالها وأماكنها، فإضافة إلى الرّسوم الفنيّة والكتابات الثّوريّة على الجدران، وطباعة اللّوحات والبورتريه والعبارات على حيطان المنازل والمحلاّت؛ فهناك تجمّعاتٌ احتجاجيّة في ساحاتِ البحرين شهدت إطلاق نُصْب فنيّة ورسوم ولوحات فنيّة متحرّكة، وكان ذلك يتمّ متزامنا مع جداريّات إلكترونيّة وأعمال فنيّة وأناشيد ثوريّة يتشارك فيها مجهولون على المواقع الإلكترونية ووسائل التّواصل الاجتماعي، مصحوبة بإعادة نشْر صور للجداريّات واللّوحات المطبوعة في الشّوارع.
كتابات على الشّوارع: حمد تحت الأقدام
وقد أضافت ثورةُ البحرين شكلا آخر من الرّسوم الاحتجاجيّة، وذلك عبر الكتابة والرّسم على الأسفلت بالشّوارع، وهي فعّاليةٌ يتم تنفيذها على نطاق واسع، وحملت في البدء رسالةً مباشرة وثوريّة ضدّ الحاكم الحالي حمد بن عيسى آل خليفة، وتُعرَف في القاموس الثّوري باسم فعاليّة "حمد تحت الأقدام"، حيث تتم كتابة اسمه على الطّرقات والشّوارع لتكون مداسا للسّيارات والعابرين، وتسابَقَ المحتجّون في مختلف المناطق في تنفيذ هذه الفعّالية، وابتكار أشكال وأحجامٍ مختلفة في خطوط الكتابة والتّلوين. وشكّل هذا النّمط من العمل الفني الثّوري، على الدّوام، ازعاجا كبيرا للسّلطة، وكانت تُسارع إلى محو العبارات، وعمدت إلى استنفار دوريّات ومخبرين خاصّين لترصّد المشاركين فيها وإزالة المطبوعات على الفور من الشّوارع. وعندما عجزت السّلطة عن تطويق هذه الفعاليّة؛ لجأت إلى استعمال القمْع والتّهديدات المباشرة، على غرار ما حصلَ في شهر محرم من العام ٢٠١٨ عندما جرى استدعاء مسؤولين مآتم وحسينيّات وهدّدت بإغلاقها ومنْع مواكب العزاء، ردّا على كتابة اسم الملك حمد على شوارع تعْبرُ فوقها مواكبُ العزاء، وأوعزت السّلطة لرجال دين وشخصياتٍ وجهات تابعة لها لإصدار بيانات ومواقف تنديد لهذه الوسيلة الاحتجاجيّة، تحت عنوان عدم الرّغبة في "تسييس العزاء" وبزعم تجنُّب إعطاء السّلطة ذريعةً لمنع مواكب العزاء في عاشوراء.
يشير ذلك إلى أنّ جداريّات وفنونَ التّعبير الخاص في ساحاتِ البحرين وشوارعها؛ لم تقتصر فقط على تقديم رسائل احتجاجيّة وثوريّة فحسب، ولكنّها أيضا كانت تمارسُ شكلا من الحرب النفسيّة، وتقديم "الرّسائل الفوريّة" في مواجهةِ مشاريع السّلطة وخططها وخطواتها، كما أنّها كانت تعبيرا عن المجهود الشّعبي في مقاومةِ القمع والتّرهيب والحصارات، وفي إثباتِ المروحة المفتوحة من البدائل التي يمكن أن يبتكرها المحتجّون على مستوى الكفاح المدني، وفي تصعيد المواجهة ضد الظّلم والطّغيان، مع ترسيخ هذا الموقف عبر أعمال فنيّةٍ ولوحات مغروسة في الذّاكرة، وعلى الجدران.
داريّات الائتلاف في لبنان: توسيع الجغرافيا.. والرسائل
في هذا السّياق، يمكن قراءة الجداريّات التي اهتم بها ائتلاف شباب ثورة ١٤ فبراير في الفترة الأخيرة، فهي من المساعي الرّامية لتوسيع مهام هذه الجداريّات ونطاقاتها. هذا التّوسُّع لا يقتصر على تنوّع الجغرافيا، ولكنه أيضا يرتبط بالوظائف المستجدّة التي يرى المحتجّون الحاجة لتثبيتها عبر هذه الوسيلة التّعبيرية. على مستوى الجغرافيا، اختارَ الائتلاف أن ينظّم جداريات خارج حدود البحرين، وحتى الآن أقامَ جداريتين في لبنان، الأولى في العام ٢٠٢١م، وجرى تنفيذها على الجدار العازل على حدود لبنان مع فلسطين المحتلّة، والأخرى تمّت بمناسبة يوم القدس العالمي هذا العام (٢٠٢٣) في الضّاحية الجنوبيّة ببيروت. إنّ اختيار المكان العام والخاص حمِلَ رسائل معبّرة وواضحة، فالجداريّة الأولى كانت رسالةً غير مشفّرة إلى الكيان الصّهيوني مفادها أنّ شعبَ البحرين – كما بقية الشّعوب الحرّة - ضدّ التّطبيع الذي اختاره نظامُ آل خليفة، وأنّ الموقف الشّعبي الثّابت هو مع خيار المقاومة وتحرير فلسطين كاملةً. ولم يكن اعتباطا الحرْص على إيصال هذه الرّسالة من الحدود مع فلسطين المحتلّة، وعلى مرأى من جنود الاحتلال، حيث كان المطلوب رسالةً بليغة وجريئة في الوقت نفسه.
أمّا جداريّة الضّاحية الجنوبيّة لبيروت؛ فهي عملٌ فنيّ يعبّر عن تلاحم البحرانيين غير المحدود مع المحور المتوجّه نحو القدس الشّريف، بما يعنيه ذلك من شعورٍ وإشعار حاسمٍ بأنّ معركة التّحرير أضحت قريبةً، بإذن الله تعالى، وأنّ شعوبَ المنطقة وأحرارها لن يكونوا بعيدين أو متردّدين عن الاضطلاع بالمسؤوليّات الملقاة على عاتقهم مع إطلاق الصّرخة الأولى للزّحفِ الأخير وإسقاط الكيان المؤقت. ولا يخفى هنا أيضا؛ أنّ ثمّة معاني وراء استحضار البحرين في مثل هذه الجداريات. فمحوريّة القدس لا تعني، على الإطلاق، إهدارَ مشروع حريّة الشّعوب وتحرُّرها من طغيان حكوماتهم الديكتاتوريّة، ولكنّها محوريّة تُعزّز الرّبط الوثيق والكامل بين زوال الكيان الصّهيوني الوشيك، وإسقاط الأنظمة القمعيّة، وفي مقدّمتها الأنظمةُ المطبِّعةُ والملحقةُ بالكيانِ الأوْهنِ من بيتِ العنكبوت.
الكاتب: كريم البحراني