إنّ قراءة الأحداث الميدانية في الضفة الغربية المحتلّة، حيث تتصاعد المقاومة المنظّمة ضمن مجموعات وكتائب منذ سنتين، يقود الى ملاحظة أن كيان الاحتلال لجأ الى استخدام استراتيجية "طنجرة الضّغط" في التعامل مع المقاومين. وهو ما يكرّره محللو الاحتلال في الإعلام العبري عند كلّ اقتحام لمنطقة أو مخيم. على الرغم من أن هذه الاستراتيجية ليست بالجديدة، وقد طبّقها الاحتلال أيضًا في فترة الانتفاضتين مثلًا، الا أن العودة اليها بهذا الشّكل المكثّف يحمل دلائله.
أولًا، ما هي "طنجرة الضغط"؟
تكتيك عسكري، يتضمن مراحل تدريجية في التعامل "مع الهدف". تبدأ عبر الرصد الاستخباراتي الدقيق أو ما يسمى "الإطباق المعلوماتي" حول الشخص المطارد لتحديد المكان الذي يختبأ فيه. وفي حالة الضفة الغربية عادةً ما يتواجد المقاوم في منزل.
بعد تحديد المكان، تتسلّل قوات الجيش إليه بهدف محاصرته (الحشر)، وتضيّق الحصار لإبقاء المقاوم (الهدف) في أصغر مساحة جغرافية وتسدّ كل فتحات في المنزل أو المكان، للتأكد من أن الانسحاب غير ممكن.
ينادي الجيش على المقاوم المطارد بمكبرات الصوّت لتسليم نفسه. إذا سلّم نفسه يتوقّف الاجراء على الاعتقال. لكن إذا رفض – وهو ما يحدث فعلًا في الضفة – يصعّد الاحتلال من إجراءات هذه الاستراتيجية الوحشية.
فينتقل هنا الى مبدأ "التسخين"، لقضم المساحة التي يتحصّن بها المقاوم، أولًا عبر هدم كلّ الأسوار المحيطة بالمنزل. وثانيًا، عبر الاستهداف المباشر من خلال الأدوات الصلبة ومنها القذائف والصواريخ المحمولة على الكتف من نوع "اللاو" و"الماتادور"، وقنابل الغاز والصوت. الى جانب استقدام الجرافات المصفّحة، وفي أغلب الأحيان من نوع D9.
بالتزامن يستخدم الاحتلال أيضًا الأدوات الناعمة لإحداث ضغط نفسي كبير على المقاوم من خلال استغلال عائلته وخاصة الذين تربطه معهم قرابة من الدرجة الأولى الأم، الأب، الأخ، الزوجة، الأولاد...، كـ "دروع بشرية" لدفعه نحو تسليم نفسه. وعندما تفشل هذه الإجراءات الأخيرة، يذهب الاحتلال الى الاغتيال وهدم المنزل على رأس المقاوم.
كلّ خطوات استراتيجية "طنجرة الضغط"، يوكل تنفيذها الى وحدة "يمام" التابعة لحرس الحدود، والتي توزّع مهماتها ضمن الفرق:
_ فريق المستعربين الذي يتغلل بين المناطق الفلسطينية لاكتشاف المقاومين وتأمين المعلومات.
_ فريق الاقتحام، مدرب ومجهز من أجل الاقتحام المباشر.
_ فريق "قرود الإرهاب"، يتضمن مقاتلي التسلق والانزال والإنقاذ الى جانب خبراء المتفجرات والقناصة والكلّابين والمسعفين والسائقين.
يمهّد عمل "اليمام" دخول الجيبات المصفّحة والجرافات التابعة لوحدة الهندسة والتي تعزل المنطقة المستهدفة عن باقي المدينة أو المخيم. لتقتحم أعداد كبيرة من الجيش (غالبًا من لواء جفعاتي) هذه المنطقة المعزولة بسيارات مصفحة أيضًا، عادةّ ما تكون من نوع "وولف" و"بانثر".
ثانيًا، لماذا يستخدمها الاحتلال الآن؟
تهدف "طنجرة الضغط" إلى إجبار "الهدف" على الاستسلام أو تحييده بأقل الخسائر، كما أنها تعطي الاحتلال السيطرة وتجعل المقاوم مكشوفًا أمام النيران. كما تعمل هذه الاستراتيجية على حرمان "الهدف" من التفكير المنظم الذي يساعده على تقدير الموقف واتخاذ القرار الأنسب للتعامل بشكل صحيح مع الوضع. بالإضافة الى أنها تقطع عنه طرق الامداد والدعم الخارجي.
إنّ استخدام "طنجرة الضغط" اليوم، يعدّ بديلًا للاحتلال عن الاقتحامات الواسعة التي ترتقي الى مستوى "العملية العسكرية" في الضفة والتي تستغرق عادةً أيامًا على غرار عملية "السور الواقي" في جنين عام 2002، مع كلّ ما حملته من تداعيات وخسائر على الاحتلال. فيحاول من خلال هذه الاستراتيجية التعامل مع المقاوم كـ "حالة فردية" كي لا يضطر الى الاقتحامات الواسعة التي تصعّد من الأوضاع وتجرّ الى معركة سواء في الضفة الغربية أو تلك التي تنضم اليها غزّة، ولا يمكن تحمّل نتائجها.
عقيدة المقاومة تخترق هذه الاستراتيجية
إنّ هدف الاحتلال، في الواقع، من استخدامه لـ "طنجرة الضغط" يكون الاعتقال أكثر منه الاغتيال. لكنّ العقيدة الصلبة التي تميّز المقاومين في الضفة الغربية، والتي تثبّتهم على خيارهم ولا تسمح لهم بالاستسلام أو التراجع، تعقّد الأمور بالنسبة للاحتلال وتكبّده الخسائر أيضًا.
فإن اقتحامات الاحتلال لاعتقال المقاومين تؤدي دومًا الى اشتباكات لا تنتهي قبل 3 ساعات، على الرغم من قلّة ذخيرة المجاهدين مقابل إمكانات الاحتلال وحشوده البشرية. يظهر الثبات جليًا في وصايا الشهداء التي تخرج من المنزل المحاصر، على سبيل المثال قال الشهيد محمد الجنيدي، وهو قائد في "كتيبة نابلس" التابعة لسرايا القدس، والذي اغتيل باعتماد الاحتلال هذه الاستراتيجية إن "ابن السرايا لا يهرب... هو محاصر ولا يسلّم نفسه".
أمّا وصية الشهيد إبراهيم النابلسي والتي كانت "لا تتركوا البارودة" تظهر أن "طنجرة الضغط" لم تحقق "الردع". فاستمر المقاومون بنشاطهم العسكري.
وقد استخدم الاحتلال "طنجرة الضغط" بعد الشهيد النابلسي في اغتياله للقائد في مجموعة "عرين الأسود" وديع الحوح أواخر شهر تشرين الأوّل / أكتوبر من العام 2022. وقبلهم في اغتيال الشهيد أحمد الجرار في شباط / فبراير من العام 2018، كما في اغتيال الشهيد محمد الفقيه والشهيد نبيل الصوالحي عام 2016. وأخيرًا قبل أيام في اغتيال منفّذ عملية "حاجز حوارة" عبد الفتاح خروشة في جنين.
الكاتب: مروة ناصر