برر صموئيل هنتنغتون في كتابه "صراع الحضارات"، اقتراحه للنظر إلى العالم من منظور "التكتلات الحضارية "مع الاعتراف بأن كل هذه المخططات التصنيفية، بالمعنى الأساسي، فرضيات تعسفية على الواقع. انها أدوات "الكشف عن مجريات الأمور" فقط لتفسير الأحداث الجارية، بناءً على ما يبدو أنه أهم سمات الهوية البشرية أو الانتماء في لحظة معينة من الزمن. وأن العالم ينقسم بحسب الهويات التاريخية والدينية والثقافية.
اعتبر العالم السياسي المشهور أن فهم الصراع الحالي والمستقبلي، يفهم إذاً من الصدوع الثقافية وليس الآيديولوجية أو القومية يجب أن تُقبل نظرياً باعتبارها بؤرة الحروب القادمة، وهو بذلك كان يجادل تلميذه فرانسيس فوكوياما في مقاله المعنونة "نهاية التاريخ والإنسان الأخير". جادل فوكوياما في نهاية التاريخ والإنسان الأخير بأنه وبنهاية الحرب الباردة، ستكون الديمقراطية الليبرالية الشكل الغالب على الأنظمة حول العالم، وإن كان يمكن الدمج ما بين الأطروحتين لفهم الصراعات الحالية في العالم.
لكن ما يحصل في العالم اليوم، يظهر أن هناك صراعات جيوسياسية لا تعتمد على الروابط التاريخية أو الثقافية، بل على المصالح المتقابلة، وعلى الهيمنة والنفوذ، التي تأتي الأطروحات الثقافية وغيرها كسبيل لتكريسها، وبالتالي يمكن الدمج ما بين صراعات النفوذ والصراع الايديولوجي للنظرة إلى العالم.
وقد اختلفت معايير تشابك العلاقات الدولية اليوم عما كانت عليه في الفترات السابقة، مع الحفاظ بين الحين والاخر على معيار الايدولوجية لشحن شعوب العالم، فعقب بدأ العملية العسكرية الروسية في اوكرانيا، حشدت دول الغرب ضدها، وكانت معظم الدول التي فرضت عقوبات ضد روسيا هي في معسكر الغرب أو المعسكر الليبرالي، في مقابل دول تريد الخروج من تحت الهيمنة الأميركية، معظمها في إفريقيا وآسيا وأميركا الجنوبية، كما أن شعوب هذه الدول ترفض في معظمها الهيمنة الأميركية، أو على أقل تريد شراكة مع روسيا والصين.
وقد نشرت جامعة كامبريدج دراسة تحت عنوان "عالم منقسم: روسيا والصين والغرب" ( AWorld Divided Russia, China and the West) فحص كيف تتغير مواقف الرأي العام حول العالم تجاه القوى الدولية الكبرى، الصين وروسيا والولايات المتحدة الأميركية، في أعقاب حرب أوكرانيا، وبينت الدراسة أن العالم اليوم ممزق بين مجموعتين متعارضتين: تحالف بحري من الديمقراطيات بقيادة الولايات المتحدة. وكتلة أوروبية آسيوية من الدول غير الليبرالية أو الأوتوقراطية، التي تتمحور حول روسيا والصين.
وبيّن التقرير أن الديمقراطيات الغربية تقف بحزم أكثر من أي وقت مضى خلف الولايات المتحدة. كما أن الحرب في أوكرانيا حفزّت المجتمعات الديمقراطية والليبرالية في جميع أنحاء العالم إلى اتخاذ موقف أكثر تأييداً لأميركا. لكن مساحات شاسعة من البلدان الممتدة من أوراسيا القارية إلى افريقيا نجد أن المجتمعات اقتربت أكثر من الصين وروسيا على مدار العقد الماضي. نتيجية لذلك، فإن الصيين وروسيا تتقدمان بفارق ضئيل على الولايات المتحدة في شعبيتها بين الدول النامية.
الاختلافات القائمة في العالم اليوم، ليست فقط بين الدول ودبلوماسييها وعسكرييها وأصحاب القرار فيها، لكن ايضاً بين المجتمعات القائمة فيها، فما يحصل في اوكرانيا أظهر العالم أكثر انقساماً، وبحسب الدراسة، فإننا "إذا نظرنا إلى خريطة كيف يشعر الناس حول العالم تجاه روسيا، نكتشف انعكاسًا متطابقًا تقريبًا لكيفية تعامل حكوماتهم مع روسيا منذ عام 2014"، وهذا يظهر كيفية نظر الشعوب والبلدان إلى القوى الرائدة في العالم اليوم، وينطبق الشيء نفسه في العام الحالي ، عندما ننظر في كيفية تحول الآراء رداً على الحرب الروسية في أوكرانيا.
ويظهر أن، ردود الفعل على الحرب سواء بين الدبلوماسيين أو عامة الناس - تدل على تباين أعمق في آفاق العالم. فهناك من يقف خلف الولايات المتحدة لتحدي عودة القوى العظمى الاستبدادية بحسب ما تعبر عنه دراسة كامبريدج، وبين أولئك الذين يسعون إما إلى البقاء على الحياد، أو يتم جذبهم إلى مجال أوراسيا أي إلى النفوذ الذي تتمحور حوله روسيا جزئيًا وهي في تقدم على عكس ما تريده واشنطن، ولكن الأهم هو الجذب من جانب الصين وشبكتها الجديدة عبر الشراكات الاقتصادية العالمية الناشئة، فالصين وسّعت بشكل كبير قوتها الاقتصادية والسياسية في الماضي، لتصبح ثقلًا موازنًا جوهريًا للنفوذ الغربي في إفريقيا وآسيا. يمكن ملاحظة ذلك من خلال الشعبية العالية والمستقرة التي تتمتع بها الصين في شبه القارة الأفريقية، جنبًا إلى جنب مع جاذبيتها المتزايدة في الشرق الأوسط، بينما يواصل البر الرئيسي للصين ممارسة القوة الناعمة عبر قارة أوراسيا، فضلاً عن التوسع في أوروبا والقارة الأميركية.
ما تقدم، يبين لنا مدى الإنقسام الحاصل في العالم، والذي على أساسه سوف تزداد التجاذبات، ليس فقط على مستوى الدول إنما على مستوى الشعوب ايضاً، لأن الرأي العام العالمي يتأثر بالانقسام والتجاذب الحاصل، على كل المستويات وبكل المعايير والأطروحات، فالدول التي تتصارع على القوة والنفوذ في العالم هي التي تؤثر في شعوبها، إلا أن المسار العام يبين تقدماً عالمياً واضحاً لرافضي الليبرالية والهيمنة الأميركية، فيما يزداد تأييد المحور الآخر كروسيا والصين خاصةً من قبل الدول النامية والأكثر فقراً.
هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة رأي الموقع