كان الرئيس الأميركي، جو بايدن، حتى الأمس القريب، ينتظر يوم الخامس من كانون الأول/ ديسمبر القادم، بحماسة واندفاع كبيرين. اذ ان بدء العمل بالخطة المطروحة حول وضع سقف لأسعار النفط الروسي، كان كفيلاً بأن يشعره بـ "النصر". إلا ان اجتماع وزراء الطاقة الاوروبيين، لم يأتِ كما تشتهي رياح الادارة الاميركية، لعمق الهوّة بين دول الاتحاد الاوروبي، الذي بدأ يتلمّس واقعياً، ان واشنطن "تستثمر"، بالحرب ضده، بل انها الرابح الأكبر.
كان يوم 23 تشرين الأول/ نوفمبر الجاري، موعداً لاتفاق دول مجموعة السبع والاتحاد الأوروبي لوضع سقف لسعر شراء النفط الروسي. حيث كان من المتوقع ان يتم الاعلان عن تحديد سعر البرميل عند 70 دولاراً، واعتبرت الدول التي ايّدت هذا السقف (الولايات المتحدة، فرنسا، ايطاليا، ألمانيا) أنه حلّاً وسطاً، يغطّي كلفة الانتاج التي تقدّر بـ 20 دولاراً، ويضمن ربحاً بسيطاً لروسيا، في حين عارضت بعض الدول الاخرى هذا النهج، مطالبة بتعويضات عن الخسائر المحتملة كاليونان. وانقلب الاجتماع الذي كان قد عُقد للاتفاق، مَحفلاً تقاذفَ فيه الوزراء الاوروبيون المسؤولية. اذ نقلت صحيفة بولتيكو الأميركية في تقرير لها يحمل عنوان "أوروبا تتهم الولايات المتحدة بالربح من الحرب"، قول مسؤولين اوروبيين هاجموا بايدن بسبب ارتفاع أسعار الغاز ومبيعات الأسلحة والتجارة. معتبرين ان "حرب فلاديمير بوتين تهدد بتدمير الوحدة الغربية".
كبيرة المراسلين التجاريين في الصحيفة، باربرا موينز، نقلت عن "مسؤول اوروبي كبير" قوله انه "بعد 9أشهر من غزو أوكرانيا، بدأ فلاديمير بوتين في تفتيت الغرب. كبار المسؤولين الأوروبيين غاضبون من إدارة بايدن ويتهمون الأمريكيين الآن بجني ثروة من الحرب، بينما تعاني دول الاتحاد الأوروبي". واضافت نقلاً عن "المسؤول الذي طلب عدم الكشف عن اسمه "يا للوقاحة، إن الدولة الأكثر ربحًا من هذه الحرب هي الولايات المتحدة لأنها تبيع المزيد من الغاز وبأسعار أعلى، ولأنها تبيع المزيد من الأسلحة".
وجاءت التصريحات النارية علانية وفي الجلسات الخاصة، من قبل المسؤولين والدبلوماسيين في أعقاب الغضب المتصاعد في أوروبا بشأن الإعانات الأميركية التي تهدد بتدمير الصناعة الأوروبية. وقال المسؤول الكبير في الاتحاد الأوروبي: "نحن حقًا في منعطف تاريخي"، واشار إلى أن الضربة المزدوجة لاضطراب التجارة من الدعم الأميركي وأسعار الطاقة المرتفعة تهدد بوقوع الرأي العام ضد كل من المجهود الحربي وحلف الناتو، وقال: "تحتاج الولايات المتحدة إلى إدراك أن الرأي العام يتغير في العديد من دول الاتحاد الأوروبي".
ودعا كبير الدبلوماسيين في الاتحاد، جوزيف بوريل، واشنطن إلى الرد على المخاوف الأوروبية. وقال في مقابلة مع بوليتيكو: "الأمريكيون - أصدقاؤنا - يتخذون قرارات لها تأثير اقتصادي علينا". إلا ان الشكاوى الاوروبية كانت دائما تُقابل بـ "الانكار الأميركي"، حيث قال المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الاميركي، ادريان واتسون "إن ارتفاع أسعار الغاز في أوروبا ناتج عن غزو بوتين لأوكرانيا وحرب بوتين للطاقة ضد أوروبا، هذه الفترة....زادت صادرات الغاز الطبيعي المسال من الولايات المتحدة إلى أوروبا بشكل كبير ومكنت أوروبا للتنويع بعيدا عن روسيا".
كانت أكبر نقطة توتر في الأسابيع الأخيرة هي الإعانات والضرائب الخضراء التي يقدمها بايدن والتي تعتبرها بروكسل إنها تؤثر على التجارة بشكل غير عادل، وتؤثر مباشرة على الاتحاد الأوروبي وتهدد بتدمير الصناعات الأوروبية.
في الوقت الذي يحاولون فيه تقليل الاعتماد على الطاقة الروسية، تتجه دول الاتحاد الأوروبي إلى الغاز من الولايات المتحدة بدلاً من ذلك. لكن السعر الذي يدفعه الأوروبيون أعلى بأربعة أضعاف من نفس تكاليف الوقود في أميركا، بحسب تقرير كل من، جورجيو ليالي وستيوارت لاو، اللذان كشفا ان "هناك زيادة محتملة في الطلبات على المعدات العسكرية الأمريكية الصنع". كل هذا يعني الكثير بالنسبة لكبار المسؤولين في بروكسل وعواصم الاتحاد الأوروبي الأخرى. اذ قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إن أسعار الغاز المرتفعة في الولايات المتحدة ليست "ودية" ودعا وزير الاقتصاد الألماني واشنطن لإظهار المزيد من "التضامن" والمساعدة في خفض تكاليف الطاقة.
عندما تعامل قادة الاتحاد الأوروبي مع بايدن بشأن ارتفاع أسعار الغاز الأمريكية في اجتماع مجموعة العشرين في بالي الأسبوع الماضي، بدا الرئيس الأمريكي ببساطة غير مدرك للقضية، وفقًا للمسؤول الكبير نفسه. فيما اتفق مسؤولون ودبلوماسيون آخرون في الاتحاد الأوروبي على أن "الجهل الأميركي بالعواقب بالنسبة لأوروبا كان مشكلة كبيرة".
من جهته، قال ديفيد كليمان من مؤسسة Bruegel للأبحاث: "يشعر الأوروبيون بالإحباط بشكل واضح إزاء نقص المعلومات والاستشارات المسبقة".
أدى النزاع المتزايد حول قانون بايدن لخفض التضخم (IRA) - وهو عبارة عن حزمة ضخمة من الضرائب والمناخ والرعاية الصحية - إلى وضع المخاوف بشأن حرب تجارية على رأس جدول الأعمال السياسي مرة أخرى. وقالت وزيرة التجارة الهولندية، ليسجي شرينيماخر، ان "قانون خفض التضخم مقلق للغاية". بينما اعتبر المسؤول الرئيسي عن العلاقات في حلف الاطلسي، في البرلمان الاوروبي تونينو بيكولا، ان "الولايات المتحدة تتبع أجندة محلية، للأسف تتسم بالحمائية وتميز ضد حلفاء الولايات المتحدة".
وأضاف المسؤول أنه في معظم الحالات، لا يذهب الفرق بين أسعار التصدير والاستيراد إلى مصدري الغاز الطبيعي المسال في الولايات المتحدة، ولكن إلى الشركات التي تعيد بيع الغاز داخل الاتحاد الأوروبي. أكبر مالك أوروبي لعقود غاز أمريكية طويلة الأجل هي شركة TotalEnergies الفرنسية على سبيل المثال.
الدول الاوروبية تخسر ميزتها التنافسية
أصبحت الطاقة ميزة تنافسية كبيرة للشركات الأميركية أيضًا. تخطط الشركات العالمية لاستثمارات جديدة في الولايات المتحدة أو حتى نقل أعمالها الحالية بعيدًا عن الدول الاوروبية، إلى المصانع الأمريكية. خلال الاسبوع الماضي فقط، أعلنت شركة سولفاي الكيميائية متعددة الجنسيات أنها تختار الولايات المتحدة على أوروبا لاستثمارات جديدة، في أحدث سلسلة من الإعلانات المماثلة من عمالقة الصناعة في الاتحاد الأوروبي.
وعلى الرغم من الخلافات في مجال الطاقة ، لم يكن الأمر كذلك حتى أعلنت واشنطن عن خطة دعم صناعي بقيمة 369 مليار دولار لدعم الصناعات الخضراء بموجب قانون الحد من التضخم ، حيث دخلت بروكسل في حالة من الذعر الكامل. وقال أحد الدبلوماسيين في الاتحاد الأوروبي: "لقد غير قانون خفض التضخم كل شيء. هل ما زالت واشنطن حليفة لنا أم لا؟"
بالنسبة لبايدن، يعتبر التشريع إنجازًا مناخيًا تاريخيًا. لكن الاتحاد الأوروبي يرى ذلك بشكل مختلف. وقال مسؤول بوزارة الخارجية الفرنسية إن التشخيص واضح: هذه "إعانات تمييزية من شأنها تشويه المنافسة". حتى أن وزير الاقتصاد الفرنسي برونو لومير اتهم الولايات المتحدة بالسير على طريق الانعزالية الاقتصادية للصين.
يستعد الاتحاد الأوروبي لردوده، كدفع إعانات كبيرة لمنع القضاء على الصناعة الأوروبية من قبل المنافسين الأمريكيين. وقال النائب الألماني رينهارد بوتيكوفر: "إننا نواجه أزمة ثقة زاحفة بشأن قضايا التجارة في هذه العلاقة".
وقالت النائبة الفرنسية ماري بيير فيدرين: "في مرحلة ما، عليك أن تثبت ذاتك...نحن في عالم من صراعات القوة. عندما تصارع ذراعك، إذا لم تكن رياضياً، إذا لم تكن مستعدًا جسديًا وعقلياً، فإنك تخسر".
شركات الأسلحة الأميركية مستفيد آخر من الازمة
خلف الكواليس، هناك أيضاً غضب متزايد بشأن تدفق الأموال إلى قطاع الاسلحة الاميركية. كانت واشنطن إلى حد بعيد أكبر مزود للمساعدات العسكرية لأوكرانيا، حيث قدمت أكثر من 15.2 مليار دولار من الأسلحة والمعدات منذ بداية العملية العسكرية الروسية. ووفقًا لبوريل، قدم الاتحاد الأوروبي حتى الآن حوالي 8 مليارات يورو من المعدات العسكرية لأوكرانيا.
ووفقًا لمسؤول كبير من إحدى العواصم الأوروبية، فإن "إعادة تخزين بعض الأسلحة المتطورة قد تستغرق سنوات بسبب مشاكل في سلسلة التوريد وإنتاج الرقائق... أثار هذا مخاوف من أن صناعة الأسلحة الاميركية يمكن أن تستفيد أكثر من الحرب". جادل دبلوماسي آخر من الاتحاد الأوروبي بأن "الأموال التي يجنونها من الأسلحة" يمكن أن تساعد الأمريكيين على فهم أن كسب كل هذه الأموال من الغاز قد يكون كثيرًا جدًا... ليس من الجيد، من حيث المبدأ، إعطاء الانطباع بأن أفضل حليف لك هو في الواقع يحقق أرباحاً ضخمة من مشاكلك".
الكاتب: غرفة التحرير