عالم جديد على وشك ان يولد. رقعة الشطرنج الكبرى تتهيّأ لاستقبال لاعب اقتصادي عملاق، كان -حتى انتهاء الحرب الباردة- بعيداً عن الأضواء، بينما كان يعمل بهدوء على "غزو العالم" لكن بطريقته الخاصة.
عام 2000، أصدرت الولايات المتحدة قانوناً يلزم وزارة الدفاع، وكان على رأسها ويليام كوهن، بإعداد تقرير سنوي بنسختين إحداهما سرية لرصد تحركات الصين ومسارها التطوري التكنولوجي على مختلف الأصعدة. بعد أكثر من عقد، اكتشفت واشنطن في وقت متأخر، ان الصين باتت منافساً حاضراً بمختلف دول العالم، حتى تحولت لـ "إمبراطورية اقتصادية" يصعب كبحها.
بالنسبة لبكين، ومنذ تأسيس الجمهورية الشعبية أواخر عام 1949، وجدت نفسها محاصرة بحضور عسكري وسياسي أميركي فاعل في تايوان وكوريا والهند واليابان وما يتصل بتلك المنطقة من مضائق وممرات مائية في المحيط الهندي والأطلسي وغيرها.
هذه الخطوات الاحترازية التي عمدت إليها واشنطن منذ زمن، تأتي نتيجة عقيدة تمتلكها الأخيرة، بأن بكين "عدو مؤجل". وتشير شركة "غالوب" الاستشارية العالمية -التي كان وزير الدفاع الأميركي السابق، تشاك هاغل قد أثنى على "استقلاليتها وعملها المهني"- في مقال لها نشر في 16 آذار/ مارس عام 2021، إلى ان "التصورات عن الصين كأكبر عدو لواشنطن وصلت إلى الذروة. تم تحديد القلق بشأن الصين، وينظر لقوتها الاقتصادية، على أنه تهديد للمصالح الحيوية للولايات المتحدة من قبل معظم الأمريكيين. بالإضافة إلى ذلك، يرى نصف الأمريكيين أن الصين هي القوة الاقتصادية الرائدة في العالم اليوم. تجعل هذه التطورات السياسة الخارجية الأميركية تجاه الصين ذات أهمية خاصة، حيث ازداد التوتر بين البلدين خلال العقد الماضي خاصة خلال إدارتي باراك أوباما ودونالد ترامب".
استراتيجية القفز من فوق الأسوار
خلافاً للاستراتيجية التي تتبعها الولايات المتحدة، والتي تتمثل بالمواجهة العنيفة والحسم السريع لتحقيق الأهداف وكان أوجها ما بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر عام 2001، ذهبت الصين لاعتماد استراتيجية أكثر ليونة، وأكثر اعتماداً على عامل الوقت وحاجة الأسواق العالمية المتنامية. وبالتالي، رسمت بكين قواعد لعبة جديدة تعتمد بالدرجة الأولى على القفز فوق رأس العدو دون الاضطرار لإزاحته او محاربته.
كانت أولى الخطوات التي قام بها التنين الصيني، العمل على إعادة إحياء طريق الحرير، الذي يفتح له باب العبور إلى خارج المنطقة بحزام بري آخر يربط ما بين آسيا الوسطى ومنطقة الشرق الأوسط ثم الدول الأوروبية.
الموانئ مفتاح الصين للعبور
منتصف عام 2004، توصلت شركة الاستشارات الأميركية "بوز ألين هاملتون" إلى نظرية "خيط اللؤلؤ"، أشارت فيها إلى الاستراتيجية التي تعتمدها بكين في توسعها. وتفترض النظرية ان لدى بكين "نوايا محتملة الوقوع في منطقة المحيط الهندي. لبناء شبكة من المنشآت والعلاقات العسكرية والتجارية على طول خطوط الاتصال البحرية، والتي تمتد من بر الصين الرئيسي إلى بورتسودان في شبه الجزيرة الصومالية".
ويمكن الحديث هنا، عن استراتيجيتين يحددان المسار المستقبلي الصيني:
-تشييد عدد أكبر من الموانئ الضخمة خاصة في المنطقة التي تحيط بالمضائق. بهدف رفع حضورها بمختلف خطوط النقل والتجارة البحرية.
-خلق طرق بديلة وبعيدة نسبية عن يد الهيمنة الأميركية في المنطقة. وذلك، عبر تشييد مناطق صناعية وخطوط برية تصلها بدول الجوار.
وهذا ما يفسر المشاريع الصينية في ماليزيا وكوالا لينجي وماينمار وكينيا جنوب خليج عدن، وجيبوتي والخط البري مع باكستان التي رصدت في الفترة الأخيرة، إضافة لاستثمارها في ميناء روتردام. ويبقى المشروع الأهم هو العمل على تهيئة القناة البحرية مقابل تايلاند التي تتوسط شبه الجزيرة وتربط بحر أندمان في المحيط الهندي ببحر الصين، والتي يبلغ عرضها 500 متر وطولها حوالي 125 كيلومتراً.
مع بدء التطورات الأخيرة في تايوان، حدثني صديق صحفي مطلع على التطورات الجيوبوليتيكية على المسرح الدولي، انه بينما كانت الولايات المتحدة تسعى إلى تصدير الفكر الرأسمالي وتتكبد تريليونات الدولارات على الحروب والغزوات، وفي الوقت الذي كان آخرون يتطلعون لمواجهة هذا الفكر ويعملون على ردعه، كانت الصين تعمل، بهدوء، على تصدير البضائع وبناء شبكة اقتصادية عالمية عملاقة. ويقول: "ان الصين على عكس السوفييت. لم يقم الحزب الشيوعي بتبني مشروع أيديولوجي يقوم على مواجهة "البروبغندا الليبرالية"، واختارت القيادة فيه نقل ساحة المنافسة إلى الأبعاد الاقتصادية، حيث المعركة الحقيقية التي يشهدها عالم اليوم".
الكاتب: مريم السبلاني