اجتاحت تركيا الأراضي السورية مرات عدّة منذ عام 2016 تحت ذريعة "حماية أمنها القومي من الخطر الكردي" متناسية أنّ ما تقوم به هو تهديد بل إنتهاك للأمن القومي السوري كونها تقوم بعملياتها "الأمنية" على أراضٍ سورية، حتى باتت قواتها احتلال نظير للاحتلال الأميركي في الشمال السوري، وحتى أيام قليلة مضت لم يتوانَ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن تهيئة جنوده و"ميليشياته" على الحدود السورية، لتنفيذ عملية أمنية - عسكرية في شمال وشمال شرق سورية استكمالاً لادعائه بتنفيذ حزام أمني لحماية الداخل التركي من "الإرهابيين" (حزب العمال الكردستاني والمجموعات الكردية القريبة منه)، رغم أنّ "التاريخ هو أفضل دليل لدينا في هذا الأمر، فمنذ عام 2016 تحولت المنطقة التي سيطرت عليها تركيا إلى بؤرة للجماعات الإرهابية المدعومة منها"، وفق قول كليف سميث، مدير مشروع واشنطن لمنتدى الشرق الأوسط في صحيفة "ناشونال إنترست" الأميركية.
ووسط رفض غربي – أميركي لتلك العملية، وتحذير روسي – إيراني من مخاطرها فإنّ الرئيس التركي الذي نفّذ عملياته السابقة "درع الفرات وغصن الزيتون ونبع السلام"، رغم الاعتراضات الواسعة ومن أطراف فاعلة، دولية وإقليمية، إلا أنه اليوم أمام واقع جديد خاصة بعد العملية العسكرية الروسية لحماية دونباس في أوكرانيا والتي وضعت أردوغان أمام خيارات مصيرية خاصة بما يختص بملف "الطاقة" و"الغذاء" العالمي والدور الذي منحته إياه روسيا فيما يختص بـ"اتفاق الحبوب" الذي وقع أخيراً في اسطنبول، وما كشف عنه من مباحثات خلال قمة طهران الثلاثية، والتي أشارت إلى أنّ العملية تأجلت أو حتى تم إلغاؤها نهائياً، خاصة أن الرئيسين الروسي والإيراني كانا دائماً من معارضي "التدخل" التركي السياسي والعسكري "غير الشرعي" في سورية، ليكون التحرك الميداني للجيش العربي السوري، والذي سبق قليلاً بقسم منه القمة، وتزامن القسم الآخر منه مع انعقادها، باتجاه مناطق حدودية تنتشر فيها وحدات تركية، مؤشراً لافتاً يوحي باستبعاد السير التركي بالعملية، خاصة أن هذا التحرك الميداني للجيش العربي السوري، جاء إلى مناطق حساسة مثل منبج وتل رفعت وعين العرب وعين عيسى، و التي تعدّ أساساً، الأهداف الأهم بالنسبة إلى العملية التركية "المرتقبة".
في حين ترجّح التصريحات التركية المتعاقبة مؤخراً بأنّ تركيا ستتابع تنفيذ عمليتها في شمال وشمال شرق سورية، ولكن من خلال القيام بمناورة حساسة مركبة، تأخذ بعين الاعتبار عدم الاصطدام قدر الإمكان مع الجيش العربي السوري مباشرة، وذلك من خلال تنفيذ عمليات خاصة تستهدف مواقع ومراكز عسكرية لـ"قسد" فقط، و في أمكنة بعيدة عن إمكانية الاحتكاك مباشرة مع الجيش العربي السوري أو حتى مع الوحدات الروسية، وإلحاق هذه العملية بفتح حوار "مباشر أو غير مباشر" مع الدولة السورية وبداية عبر الوحدات العسكرية والأمنية والاستخبارية للطرفين، والموجودة في شمال وشمال شرق سورية، بهدف خلق "ربط نزاع" بأسس أمنية وعسكرية، قد يكون لاحقاً، وبرعاية روسية - إيرانية، نواة لبدء تسوية مباشرة بين الدولتين السورية والتركية.
وبذلك تريد تركيا استحصال بعض الأوراق لصرفها في ميدان السياسة بعد تكرار العمليات الأمنية والميدانية التي نفّذتها دمشق من أقصى الشمال الحلبي إلى إدلب ودير الزور وريف اللاذقية، وصولاً إلى ريف حمص الشرقي وريف دمشق الجنوبي والقنيطرة وحماة. فالحرب، انتقلت من السباق الأمني إلى الاشتباك العسكري، والأسرع هو مَن سيحصل على النصر، وسيرفع راية انتصاره في وجه الخاسر والمهزوم.
وأنقرة تعي الآن أنها وصلت مع دمشق إلى عدم العودة، وأيقنت جيّداً أن دمشق انتقلت من مرحلة «المدافع» إلى مرحلة الهجوم، مع تفعيل «العنصر الأمني» وإخراج أوراق اللعب «الأصلية» من دروجها المغلقة بإحكام منذ بدء الحرب على هذا البلد "الأمين".
فالأجهزة الأمنية السورية وطيلة الفترة السابقة كانت بصدد تجميع المعلومات والعمل على تراكمها بعد قراءة متأنّية جداً، وربطها مع معلومات أخرى «خارجية أو داخلية» عن تحرّك الاستخبارات الأجنبية في الداخل السوري.
الجميع بات على أهبّة الاستعداد للمرحلة الأخيرة، فإما الجميع يرمي بأوراقه على الطاولة ويبدأ اللعب «مكشوفاً»، أو تنتقل المعارك من الأراضي السورية إلى العمق التركي..
في الوقت الذي نقلت فيه أنقرة مجهودها العسكري إلى داخل سورية، ما يُعيدنا بالذاكرة إلى التسعينيات، عندما حشدت تركيا حينها قواتها العسكرية على الحدود منذرة آنذاك بحرب عسكرية مع سورية، إلا أن للرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، كان كلام آخر، عندما أمر القوات العسكرية السورية المنتشرة على حدود البلدين بالانسحاب إلى العمق السوري، ما أثار حينها حفيظة الروس بعد الاستغراب مما قام به الرئيس الراحل، ليفهموا لاحقاً ما كان يجول في ذهن الرئيس الأسد، عندما استبدل القوات العسكرية بمنصات صواريخ هدفها ضرب السدود التركية، بهدف إغراق «الحشد التركي» على الحدود ومعظم تركيا، من دون أن يحتاج إلى رمي رصاصة واحدة من بندقية جندي سوري ليقتل بها أو يجرح جندي تركي ضمن عملية سمّاها حينذاك بـ"نوح 2".
والذاكرة مفيدة بأنها تُعيد الصواب إن احترفنا استعادتها وكنّا أذكياء، والمطلوب من أردوغان اليوم أن يعود بذاكرته قليلاً إلى الخلف ليرى أن بإمكان سورية اليوم أن تنفّذ تهديد الرئيس الراحل حافظ الأسد وتُغرق تركيا بمن فيها، كيف لا ونحن نفهم ونعرف أن سورية اليوم لن تفكر بالعودة إلى الوراء «لحظة واحدة». فسورية اليوم منتصرة وليست سورية 2011 التي أراد العالم أجمع تصفية حساباته على أراضيها.
فيما تعيش تركيا على جمر مخفيّ بالرماد، ونظام أردوغان الذي رأى بأمّ عينه مفاعيل العمل السوري على الأرض، يعيش حالة من «الجنون»، خاصة أن «ميليشياته» التي بدأ، بتشكيلها مع بداية الأزمة السورية بدأت تتهاوى أمامه مجموعة تلوَ الأخرى، وجاسوس عقب آخر، كل ذلك أنهى «الأحلام» التي دفع عليها ملايين الدولارات وأكثر لتأسيسها، لتظهر فيما بعد مكشوفةً كـ"كف اليد" أمام الأمن والجيش السوري الذي لم يوفر جهداً في القضاء عليها بلمح البصر.
كذلك بالنسبة للدول الداعمة للإرهاب في سورية، يعني وصول اللعبة إلى نهاياتها، أي أنهم تأكّدوا بأن أوراقهم المكدسة في أدراج مكاتبهم، كلها باتت بحكم المحروقة، وأن عليهم الانتقال من اللعب تحت الطاولة إلى فوقها، أي إعلان «الحرب العسكرية» على سورية ولتكن بأشكال عدة، أهمها «التدخل البري في الأراضي السورية بحجة محاربة الأكراد»، فالتوغل العسكري التركي يشي بأن «طبول الجنون» لدى أردوغان قد «ثُقبت»، وبات العزف عليها ضجيجاً لا يُطرب إلا "المجانين".
إذاً، تركيا كسرت المحظور وبدأت بالعمل «العسكري»، وما تحضّره من معركة عسكرية ليست الأولى من نوعها، وأن صبر دمشق لا يعني «الصمت»، وبالتالي ربما يتوجب على النظام التركي أن يجهّز لقواته «سفينة نوح» علّه ينجح بإجلائهم من طوفان «نوح 2» الذي وعد به الرئيس الراحل حافظ الأسد ولم ينفّذه.. تاركاً الخيار مفتوحاً أمام الرئيس بشار الأسد لينتقي بدقة اللحظة المناسبة في حال قرّرت تركيا، أن تُعيد التاريخ نفسه..
وإذا ما أرادت أنقاذ نفسها فعليها أن تعود إلى المفاعيل القانونية لاتفاقية أضنة 1998 وترضى بها كآخر ورقة للنجاة. فسورية اليوم ليست سورية 2011 والانتصار عنوانها وسيادتها ستبسطها على كامل أراضيها وليس لأردوغان في "خبزنا من طعام".
هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة رأي الموقع