منذ أن انطلقت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وبالرغم من جوقة الإدانة السريعة والمواقف الحادّة، للمعسكر الغربي وعلى رأسه الدول الأوروبية، إلا أنه ما زال هناك الكثير من هذه الدول تتخذ سياسة هي أقرب للحياد الإيجابي (دعم أوكرانيا بالخطوات الرمزية والإعلامية فقط)، حيث تجد نفسها تسير على حبل مشدود بين المخاوف الأمنية والمصالح الاقتصادية. ولذلك لم تتماشى مع السياسة التصعيدية للولايات المتحدة الأمريكية ضد روسيا، إلا في بعض الخطوات المحسوبة بدقة، فموقف "يده في النار مختلف عمن يده في الماء".
وأكبر دليل على هذا الأمر، ما صرّح به الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بالأمس الأربعاء، خلال كلمته عبر الفيديو في إطار منتدى دافوس الاقتصادي بسويسرا، حينما انتقد ما وصفه بغياب وحدة الصف بين الدول الغربية والأوروبية تحديداً، بعد أكثر من ثلاثة أشهر على بدء العملية. وقال إن بلاده تحتاج لدعم أوروبا الموحدة، لكي يكون لديهم تفوق على روسيا على حد زعمه. واستهجن زلينسكي في كلمته، موقف رئيس الوزراء المجر فيكتور أوربان، بسبب ما وصفه بتردد الأخير عن فرض حظر على النفط الروسي، ما دفعه الى القول بأن "هناك شيئاً ما لا يسير على ما يرام مع المجر". مع الإشارة هنا، إلى أن العلاقات ما بين المجر وأوكرانيا، كانت على الدوام متوترة، بسبب مشكلات قومية.
وفي هذا السياق نفسه أيضاً، نقلت صحيفة تلغراف الإنكليزية عن نائب المستشار الألماني روبرت هابيك قوله خلال مداخلة في منتدى دافوس أيضاً "إننا نشهد الآن أسوأ ما في أوروبا"، متهماً المجر ودولاً أخرى بعرقلة محاولات باقي دول الاتحاد الأوروبي، لفرض حظر كامل على استيراد النفط الروسي. لكن في هذه النقطة بالتحديد، يشكك البعض بأن ألمانيا تتلطى خلف الموقف المجري، وذلك لأنها المتضرر الأكبر من أي حظر أوروبي على النفط والغاز الروسي، فهي المستورد الأكبر لهما في القارة.
من ناحية أخرى، صرح رئيس الوزراء الإيطالي الأسبق سيلفيو برلسكوني، بأنه يجب على الدول الأوروبية إقناع السلطات الأوكرانية، بقبول المطالب الروسية لحل النزاع. مشدداً على وجوب تحقيق السلام في أسرع وقت ممكن.
موقف لافت لهنري كيسنجر
هذه المواقف الأوروبية المختلفة عن الخطاب الإعلامي الأوروبي الطاغي، تتفق معها الى حد كبير، المواقف التي أدلى بها وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر، في مؤتمر دافوس أيضاً. حينما حث الغرب على التوقف عن محاولة إلحاق هزيمة ساحقة بروسيا في أوكرانيا، لأن ذلك ستكون له عواقب وخيمة على استقرار أوروبا على المدى البعيد. مضيفاً بأنه سيكون من الخطورة بالنسبة للغرب، ما وصفه بالانغماس في مزاج اللحظة، ونسيان مكانة روسيا في ميزان القوى الأوروبي. لا سيما وأنها كانت جزءًا أساسيا من أوروبا على مدى 400 عام، كما كانت هي الضامن لتوازن القوة في أوروبا في الأوقات الحرجة. ناصحاً القادة الأوروبيين بألا تغيب تلك العلاقة الطويلة الأمد عن أذهانهم، وألا يجازفوا بدفع روسيا إلى الدخول في تحالف دائم مع الصين. وحذر كيسنجر القادة الأوروبيين من إطالة أمد الحرب، ودعاهم في المقابل الى حث أوكرانيا على قبول الجلوس إلى طاولة المفاوضات مع روسيا، حتى وإن كانت شروط التفاوض أقل من الأهداف التي تريد الخروج بها. مضيفًا بأن الدور المناسب لأوكرانيا هو بأن تكون دولة محايدة، بدلاً من السعي لأن تكون جبهة أمامية أوروبية في الصراع مع روسيا.
لكن ما لم يصرّح به كيسنجر، هو أن بلاده هي المستفيدة الأولى من هذه الحرب، حتى أن رؤساء بلاده لطالما كانوا ينظرون الى الإتحاد الأوروبي بطريقة تنافسية عدائية. فقد كشف مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق جون بولتون في كتاب مذكراته الأخير "الغرفة التي شهدت الأحداث"، بأن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، كان يصف خطر الإتحاد الأوروبي على بلاده بأنه مماثل لخطر الصين، لكن الإتحاد أصغر منها. وبهذا نتأكد أكثر فأكثر من خلفيات الموقف الأمريكي التاريخي، الذي لم يتبدل منذ ما قبل الحرب العالمية الأولى. فهي تشجع الدول الأوروبية دائماً على خوض الحروب فيما بينها، ثم تتدخل في المرحلة الأخيرة لتقطف النصر والهيمنة على العالم لوحدها.
الكاتب: علي نور الدين