إنّ ما تشهده مناطق شمال غربي سوريا، ومنذ أشهر، من تصعيد عسكري وقصف متبادل بين الفصائل المسلحة السورية والجيش السوري على محاور مختلفة، يجعل من اتفاق خفض التصعيد الموقّع بين روسيا وتركيا في آذار 2020 صوريًّا يكاد ينتظر اللحظة التي يتهاوى بها، وهو ما قد يكون بعيدًا نسبيًّا لعدم وجود الرغبة الواضحة من الطرفين المعنيين حتى الآن، ووفق مؤشرات الأحداث الراهنة. والسؤال الذي يفرض نفسه هو مدى واقعية احتمال إطاحة أنقرة بعلاقة التوازن مع روسيا وتوجيه ضربة قاضية للاتفاق، وعن ماهية نقطة التحوّل الدافعة لذلك، آنذاك.
حتى اللحظة، يبدو التركي متريثًا رغم كل الإجراءات التصعيدية، مع ضرورة الالتفات إلى أنّ القوات التركية المنتشرة في قواعدها بجبل الزاوية استهدفت مؤخرًا بصاروخ أرض – جو طائرة استطلاع روسية في سماء إدلب، دون أن تتمكن من إصابتها، وفق ما أفادت مصادر مختصة برصد حركة الطيران، لموقع نورث برس. وتظهِر الخطوة مدى تقدّم المناورة التركية في الرسائل بالتوازي مع ما تقوم به من دعم كبير مادي ومعنوي لـ "هيئة تحرير الشام" بقيادة الإرهابي أبي محمد الجولاني، بما يؤمّن له المزيد من التوسّع في ريف حلب، وعلى حساب بقية فصائل المعارضة السياسية والعسكرية في الشمال السوري.
وتستفز هذه السياسة التركية هيئات المعارضة السورية الأخرى التي تتخوّف مصادرها من محاولة أنقرة للاستئثار بالمعارضة السياسية والسلطة العسكرية في الشمال السوري، بما قد يعني تجميع أنقرة لأوراق الضغط كلها والتفرّد بمكاسب مخرجاتها. وإنّ ما تعاني منه الفصائل المسلحة حاليًّا من انشقاقات داخلية بين صفوفها يفضح اصطفاف أعضائها إلى أطراف متناحرة؛ بحيث ينعكس الصراع ما بينها في تصفيات داخل أوساط المعارضة، ونزع شرعية، وخفض تمويل، واستبعاد من المشهد السياسي. وقد ظهر إلى العلن حديثًا التناحر التركي القطري إزاء أداء الفصائل المسلّحة، وتحديدًا داخل جماعة "الائتلاف الوطني السوري" التي تتحكّم أنقرة بإعادة ترتيب هيكليته.
تسعى تركيا إلى تصفية الجماعات غير الموالية لها بما يستتب معها الأمر لصالحها، بيد أنّ الفوضى التي تشوب عمليات الفصل الجارية بما فيها من اتهامات بالارتهان والتبعية والفساد، ستعود بنتائج عكسية عليها وعلى المعارضة السياسية نفسها. فقد أصدر عدد من المفصولين بيانًا تحت اسم " الائتلاف الوطني السوري – تيار الإصلاح" اتهموا فيه قادة الائتلاف بأنهم "فئة مرتَهنة". وبمعزل عن حقيقة سبب الصراع التركي القطري وما يتمّ التداول به من خفض أنقرة التمويل للجماعات المسلّحة المعارضة مقابل رفع تمويل جماعة الجولاني، فإنّ آثار الصراع داخل أروقة هذه الجماعات تكشف زيف هؤلاء، وتفضح ضعف ما يوهمون به بعض الشعب السوري باسم "الحكومة المؤقتة"، ومتاجرتهم بطموح تلك الفئة المضلَّلة وتوقعاتها كل تلك السنين الماضية.
إنّ ما تقوم به أنقرة في الشمال السوري يضع كل الجماعات المسلّحة على مفترق طريقين: فإما العودة إلى حضن الدولة الأم وتسوية الأمور العالقة داخليًّا، وإما المضي بطريق وعرة تعاني فيه هذه الجماعات التآكل والتشتّت وانهيار المشاريع والعزلة السياسية تدريجيًّا؛ بينما يتمدّد حكم الجولاني، ويصبح الوكيل التركي الرسمي الذي يزيل كل عقبات الأهداف التركية في المنطقة، ولو كان فتات ما عرف يومًا بـ "المعارضة السورية"، ضمنها. من هنا، قد يجد كل المعنيين في المراجعة ونقد الذات فائدة في تغليب مصلحة الوطن المهدّدة أرضه الشمالية بحزام ديموغرافي يحفظ الأمن التركي ويحقق مصالحه، وتغليب مصلحة الشعب الذي دائمًا ما يكون أول من يدفع الثمن.
الكاتب: د.مريم رضا