أوضحت القيادة في صنعاء بضربتها الصاروخية للإمارات أنها جاهزة للتصعيد الأقصى، وهو ما سيخلط أوراقًا كثيرة تعمل واشنطن وحلفاؤها على ترتيبها منذ اتخذت الادارة الامريكية قرار محاولة التسلل من شبوة للضغط على صانع القرار اليمني، ويبرز في هذا المجال ضعف مستوى وقدرة الامارات على اتخاذ مبادرات مستقلة بعيداً عن ارادة السيد الأمريكي. وسنحاول في هذا الاستشراف تسليط الضوء على عنصرين أساسيين في هذا التحول الجديد وهما:
الأول: تحليل قدرة وإمكانيات الامارات في الدفاع عن نفسها وبالتالي قياس تأثيرها الاستراتيجي (الاقليمي) المبالغ فيه في الأزمة الناشئة من تورطها في اليمن.
الثاني: قراءة موقف الادارة الامريكية من التصعيد بين حلفائها وعلى رأسهم الامارات وبين القيادة في صنعاء وأسبابه ونوايا واشنطن في كيفية إدارة هذا التصعيد.
بداية تعتمد الامارات في استراتيجيتها الأمنية على شبكة تحالفاتها المعقدة التي تتوزع بين:
-دول كالولايات المتحدة الامريكية وبريطانيا والسعودية.
-ميليشيات محلية وشركات أمنية تعمل أو تُستخدم في الاقليم مثل جماعة حفتر في ليبيا ومجموعات يمنية جنوبية، وشركات أمنية كبلاك ووتر وفاغنر.
سعت الامارات من خلال شبكة تحالفاتها إلى تقوية نفوذها في الاقليم وتقديم نفسها كقوة إقليمية ناهضة، إلا أن حلفاءها الكبار تعاملوا معها كدولة ذات دور وظيفي أو دولة خنجر.
وبمتابعة مراحل تطور استراتيجية الأمن القومي في الإمارات، نجد أنها تركز على النقاط الرئيسية الآتية:
-تطوير البنى التحتية العسكرية والأمنية في البلاد، بما فيها الأمن الإلكتروني.
-البحث عن عمق استراتيجي جديد من خلال إنشاء قواعد عسكرية خارج البلاد ونشر القدرات والإمكانيات في المواضع المتقدمة.
-التشديد على الدور المركزي للتحالف الاستراتيجي مع السعودية.
-الحفاظ على علاقات وطيدة مع الولايات المتحدة.
-بذل جهود حازمة للحدّ من توسّع النفوذ الإيراني في العالم العربي.
-اللجوء إلى القوة الناعمة لاسيما من خلال دعم جهود التنمية والاستثمار، واستخدامها إلى جانب القوة الخشنة لصون مصالحها الخاصة.
وتعد التجربة الاماراتية غير الناجحة في التورط بحرب اليمن، أولى الامتحانات للدور الاماراتي المدعى، حيث زجّت أبو ظبي بقوات عسكرية إماراتية (جوية وبحرية وخاصة) لأول مرة في تاريخها بعمليات هجومية، إلا أن التدخل الاماراتي وبالتالي الدور الاقليمي المضخّم والمبالغ فيه، مُني بفشل ذريع، مما اضطرها لسحب قواتها البرية والابقاء على الحد الادنى من قواتها الجوية والبحرية والاتكال على خليط من القوات اليمنية الهجينة في مقدمتها "قوات العمالقة" التي تتألف من 15 لواءً، أسستها الامارات بعد تورطها في حرب اليمن عام 2015.
الهدف الرئيسي للتدخل الاماراتي في اليمن كان هدفاً توسعياً ذا بعد اقتصادي وفي أساسه محاولة إبراز لدورها وقوتها الاقليمية حيث سعت الامارات منذ الاسابيع الاولى لفرض سيطرتها على ميناء عدن الدولي وجزيرة سقطرى وممارسة نفوذ في منطقة باب المندب ثم سعت بثقلها عبر الشبكة التابعة لها في عدن للسيطرة على الحيّز البحري الذي يمتد من عدن على طول سواحل البحر الأحمر وصولاً إلى ميناء الحديدة الدولي، إلا أن جميع محاولاتها التي استمرت لأكثر من 19 شهراً باءت بالفشل.
ومؤخراً، ومنذ ثلاثة أشهر وبعد اقتراب الوضع في مأرب من الحسم لصالح قوات صنعاء، عاودت الامارات التدخل بكثافة في محافظة شبوة المتاخمة للتأثير على القوات التي كانت تتقدم نحو مأرب في محاولة لتشتيت جهدها، وعاودت الامارات بعد سنتين من الانكفاء المكرّس باتفاق ضمني مع صنعاء بعدم التدخل مجددًا في الشأن اليمني إلى نقض هذا الاتفاق الضمني من خلال الزج بالقوات المحلية التابعة لها مباشرة ومن خلال رفع كبير للنشاطين البحري والجوي الاماراتي والانخراط مجدداً وبشكل كبير بالعمليات الجوية المكثفة التي نفذها تحالف العدوان، مما أعاد توريط الامارات بشكل ظاهري وعلني بشكل مباشر في الحرب اليمنية، وهو ما أدى إلى الضربة الصاروخية التحذيرية الاولى الخفيفة التي نفذها الجيش واللجان الشعبية في العمق الاماراتي الاسبوع الماضي.
القدرات الاستراتيجية للإمارات:
منذ العام 1994 وبعد توقيع اتفاقية التعاون العسكري الاماراتي الأمريكي، شاركت الامارات في جميع حروب واشنطن، إلا أنها كانت تشارك بقوات جوية أو قوات برية من القوات الخاصة، وتُخضِع كل عملياتها للقيادة المباشرة لكل الاحلاف العسكرية التي شكلتها واشنطن منذ العام 1990 وحتى اليوم، ولم تكن قوات الامارات في هذه التحالفات أكثر من قوات تابعة.
إلا أن الحال والدور الاماراتي تغيّر بعد عام 2011 مع إعلان مبدأ "أوباما" الذي يختصر في منطقة غرب آسيا باستخدام القوى الحليفة في تركيا والخليج وشمال أفريقيا للقيام بحروب أمريكا كبديل عنها.
استغلت الامارات وقطر والسعودية وتركيا والمغرب الفراغ الحاصل في تراجع الحضور الاقليمي السوري العراقي المصري، بفعل الأزمات الداخلية والحروب الأهلية التي أشغلت هذا الثالوث القوي، وسعت الدول الوظيفية كالإمارات والسعودية وقطر جنباً إلى جنب مع تركيا التي كان لها حساباتها الخاصة للتسلل في منطقة غرب آسيا ونجحت في ذلك للأسباب التي ذكرناها آنفاً إلا أن تلك الدول الوظيفية (باستثناء تركيا إلى حد ما) كانت غير مؤهلة لشغل الفراغ لأسباب موضوعية تتعلق بقدراتها الاستراتيجية وحجم قوتها وتأثيرها في مناطق النزاع، وحيث أن تلك الدول كانت تعتمد في تدخلاتها بشكل أساسي حتى العام 2011 على قوتها الناعمة وقدراتها المالية فإن اختبار استخدام القوة الخشنة كان غير مشجع بل أدى إلى هزائم كبيرة في جبهة هذا الحلف الهجين.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الامارات التي نأت نوعاً ما بنفسها عن التدخل في سوريا والعراق كانت تتدخل فقط في ميادين كان عدوها الرئيسي يعمل فيها (جماعة الاخوان المسلمين في مصر وتونس وليبيا وإلى حد ما اليمن) ولم تختبر قوتها الاستراتيجية إلا في اليمن.
ماهي المؤثرات الحالية التي تملكها واشنطن والإمارات استراتيجياً لتفرض أو تغير المعادلات في اليمن؟
إذا فتشنا بدقة في هذا العنوان، نجد أن قدرة التأثير الاماراتية محدودة ولا يمكنها أن تمارس تأثراً استراتيجياً من نفسها أو منطلقاً من قرارها الذاتي المحكوم بمصالح وخطط واشنطن بشكل أساسي للأسباب العديدة التالية:
-إن الامارات هي تفصيل في الاستراتيجية الامريكية في الخليج حيث تتداخل المصالح والاستراتيجية الامريكية هناك مع كابح كبير وهو تخفيض التوتر مع إيران خاصة في الخليج، وقد تمت تجربة هذا الأمر من قبل الاسرائيليين والاماراتيين الصيف الماضي عندما حاولتا اللعب بموضوع أمن الملاحة في الخليج فكانت النتيجة أن الامريكي لجم التوتر وألزم الاسرائيليين والاماراتيين بالوقف الفوري للتصعيد رغم أن ذلك النزاع راحت نتيجته لصالح إيران.
-إن التدخل الاماراتي في اليمن يدخل ضمن العنوان الكبير وهو الارادة الامريكية بتطويع جميع أطراف الصراع في اليمن وعدم السماح لإيران أو لموسكو إلى حد ما باستنزافه هناك، وعليه فإن قدرة الامارات الذاتية على القيام بمبادرات استراتيجية كبيرة في اليمن بشكل مستقل ضئيلة حيث أن النزاع في اليمن يصاغ أميركياً على حد الشعرة.
-إن المبادرة الاماراتية بزج جيشها أو قواتها الذاتية بالقيام بمناورات حربية عسكرية برية أو جوية أو بحرية أو الاستفادة من قوات حليفة "كإسرائيل" للتدخل العسكري في اليمن أو استخدام قوات محلية يمنية تابعة مباشرة للإمارات في تغيير المعادلة العسكرية اليمنية غير واردة إطلاقاً إلا بإرادة وطلب أمريكي كما حصل الشهر الماضي عندما أمرت واشنطن (التي كانت محرجة من اقتراب حسم قوات صنعاء لمعركة مأرب) أبو ظبي بالزج بألوية العمالقة في معركة شبوة وهذا التحرك كان مستحيلاً بدون طلب وموافقة أمريكية.
-إن العامل الاسرائيلي الذي تأمل الامارات بزجه في ورطتها اليمنية لا يمكنه أبداً العمل بشكل مباشر وعلني، وحتى لو عمل كذلك فإن ذلك يزيح المصالح الاسرائيلية التي تتجنب التورط في اليمن بقواتها حتى لا ينكشف وجودها ويؤدي إلى حملة استنكار وضغوط عالمية تؤدي إلى احراج واشنطن وهو غير وارد لدى الإدارة الامريكية الآن.
-لا يمكن للإمارات أن تعتمد على الوجود العسكري الامريكي في قواعد إماراتية لحمايتها من أي استهداف صاروخي من صنعاء، حيث أن الامريكيين الذين كانوا أو من التقط رسالة الضربة الأولى لأبو ظبي وأرسلوا رسائل مضمرة أنهم يسعون بأقصى طاقتهم إلى عدم التورط في أي نزاع في الخليج، وما لم تستهدف قواتهم في الامارات بضربات قاتلة فإنهم غير معنيين بالدخول مباشرة على خط النزاع اليمني عسكرياً حتى الآن لوجود مخاوف أمريكية حقيقية من دخول محور المقاومة (أي حلفاء اليمن في النزاع) وتحوّل الحرب في اليمن إلى حرب إقليمية شاملة.
-يبقى التأثير الذي يحتمل بنسبة ضئيلة التحقق بموافقة أمريكية، وهو الزج بقوات مصرية بشكل مباشر بالنزاع اليمني، وهذا ما سيفتح الأزمة اليمنية على مصراعيها لأنه سيسمح لحلفاء صنعاء بالدخول على خط الصراع بشكل مباشر والمغامرة كذلك بتحويل العرب إلى المشاركة بنزاع شامل.
لا يبدو أن الاماراتي ومن خلفه الامريكي بعد ضربة "إعصار اليمن"، سيكون جاهزاً لاستكمال التصعيد في اليمن الذي باتت عواقبه وخيمة وقد تمتد إلى المنطقة كلها ومن الممكن أن ينحو الأصيل (الامريكي) باتجاه إطلاق عملية سياسية تؤدي إلى تبريد التوتر الذي بدأ يطال الاقليم ومحاولة تجميد النزاع بشكل مؤقت لفسح المجال أمام إطلاق هذه العملية السياسية التي من المتوقع أن تصبح جماعية يشرك بها الامريكي المجتمع الدولي والقوى الاقليمية المرتبطة بشكل أو بآخر بالنزاع لخفض التوتر وفسح المجال أمام حل سياسي، حيث أن إرادة التصعيد إلى الحد الأقصى التي عبّر عنها خصمه في الضربة التي نفذها اليوم، ستربك الامريكي حتماً وتجبره على وقف المنحى المغامر الذي اتخذه في شبوة واعادة اطلاق العملية السياسية الصعبة والمعقدة التي قد تطول بقدر عناد واشنطن بعدم الدخول في الأساسيات التي تطلبها صنعاء كشرط للبدء بتخفيض التوتر.
المصدر: مركز دراسات غرب آسيا