لم يمر أشهر على استلام بايدن للسلطة حتى قام بالإعلان عن الموعد الأخير للانسحاب من أفغانستان، فالإعلان عن هذه العملية جاء تكملةً للجهود التي بذلها سلفه السابق دونالد ترامب، الذي كان قد أجرى عدة جلسات مع مسؤولي طالبان في الدوحة تمهيداً لإجراءات الانسحاب. لكن وكما جرت العادة لم تجر الرياح كما اشتهت سفن الولايات المتحدة، فبدل من أن تكلل هذه العملية بالنجاح كما كان يأمل وزير الخارجية الأمريكي "أنتوني بلينكن"، تحولت هذه العملية إلى كابوس لا زال حتى اليوم يلاحق الإدارة الأمريكية، وأثبتت النتائج عمق الفشل الإداري لدى وزارة الخارجية بمكاتبها ومسؤوليها وعلى رأسهم بلينكن الذي تم استدعاؤه لحضور جلسة الاستماع التي عقدها الكونغرس مؤخراً لبحث نتائج العملية ومكامن الفشل التي ألمت بها.
يتحمل بلينكن بالدرجة الأولى مسؤولية الفشل في كابل، فجهاز الاستخبارات الاستراتيجية لوزارة الخارجية (INR) هو المسؤول الأول عن تقدير أوضاع أفغانستان واحتمالات ومآلات التوازنات الداخلية هناك.
يلاحظ أن بلينكن يقوم ببناء أطر بسيطة لفهم المواقف المعقدة، في قرارات قريبة من التهور واللامبالاة وهو ما أثبته كذلك الموقف الأخير للسفيرة الأمريكية في لبنان "دوروثي شيا" التي تتفوق عليه بأشواط في أدائها الإعلامي، رداً على إعلان سماحة السيد حسن نصر الله انطلاق البواخر الايرانية المحملة بالمازوت إلى لبنان، إذ أعلنت السفيرة وبسرعة ملحوظة الموافقة الأمريكية على استجرار الغاز والنفط إلى لبنان عبر سوريا، وهو موقف لم يكن عن سابق تخطيط وفهم للسياقات وسيناريوهات محتملة، بل كان موقفاً متسرعاً ومتهوراً، يشبه ما حصل في مطار كابل، فحتى لو تم تنفيذه فليس فيه مكاسب تستطيع الولايات المتحدة الاعتماد عليها في تحقيق أهدافها في لبنان والمنطقة، وهذا ما يحمل دلالات على فشل مكاتب التخطيط في الوزارة، وعدم فهم البعثة الأمريكية في لبنان لما يجري على أرض الواقع، وهذا هو حال القرارات الخارجية تحت ظل بلينكن.
بناءً على ما سبق يلاحظ أن بلينكن ومنذ استلامه لمنصب الوزارة، لم يهنأ حتى اليوم بأي إنجاز يسجل له كي يقال مستقبلاً "حقق بلينكن ذلك". كثرُ هم من تعاقبوا على منصب وزير الخارجية، وأغلبهم إذا لا نريد القول جميعهم كان "صيتهم يسبقهم" كما يقال، ويتبوؤن ذلك المنصب عن خبرة كبيرة، ويكونون بالفعل الأكثر إحاطةً بالأمور الموكلة لهم، ويلعبون الدور القيادي في تحديد السياسات الخارجية للإدارة، ومن بين هؤلاء (هنري كيسنجر، هيلاري كلينتون، جون كيري، أنتوني بلينكن).
من بين هؤلاء من يكون بلينكن؟!
أنتوني بلينكن أو "طوني" كما يحب أن يناديه المقربون، تظهر سيرته المهنية والمحطات العملية التي مرّ خلالها على أنه شخص يستطيع أن يكون ضمن مجموعة صناع القرار، لكن أن يلعب دور القائد أو صاحب الكلمة الأخيرة ضمن وزارته فهو أمر مستبعد، إذ إن "طوني" معروف في كافة المواقع التي شغلها على أنه شخص متزلف لمسؤوليه، حتى لو تعارض قرار المسؤول مع مبادئه ومواقفه فإنه يبّدي قراراتهم على قناعاته فكيف الحال مع الرئيس جو بايدن.
تشير العديد من مراكز الدراسات الأمريكية المعنية عن استخلاص الدروس والعبر من الحروب السابقة التي شنتها الولايات المتحدة الأمريكية، خصوصاً الحرب على فيتنام، إلى أن من مكامن الإخفاق في السياسة الخارجية الأمريكية وأسبابها في الحرب على فيتنام هي "حرص مجموعة صناع القرار على الصداقة فيما بينهم وتقديمها على العمل، يؤدي إلى اتخاذ قرارات سيئة بسبب تجاوز الاختلاف في الآراء".
هذا هو لسان حال الإدارة الأمريكية اليوم، فالرئيس الجديد "بايدن" اختار أشخاصاً مقربين منه بشكل خاص لتسلم المناصب الوزارية والإدارية، وبلينكن خير شاهد على هذا الموضوع، إذ إن الأخير لم يغب يوماً عن ناظري الرئيس لعقود مضت، ورافقه في العديد من المحطات، وهو من اندفع نحو "معلمه" أثناء نزوله من على الهليكوبتر خلال هبوطها في أفغانستان سابقاً، ليحظى بتقدير منه، وهو مشهد أثار تعجب من شهدوا هذا الحادث ولفت أنظارهم، ومن بين كثيرين ممن لديهم خبرة في التخطيط الاستراتيجي والاستخبارات المركزية والعمل الاستشاري، فضّل الرئيس بايدن، بلينكن على الجميع، مع العلم أن جاك سوليفان قد "هرّ شعره" وهو يعمل كمدير لتخطيط السياسات في وزارة الخارجية، فبالنهاية سنوات التزلف لابد من أن تؤتي ثمارها ولو على حساب ما تقتضيه المصلحة الأمريكية، وهو ما ظهر من فشل في عملية إدارة الانسحاب الأمريكي من أفغانستان نهاية الشهر الماضي، لتعاود الإدارة الأمريكية الحالية الوقوع في نفس الخطأ الذي وقعت فيه سابقتها إبان الحرب على فيتنام، حيث ظهر تخليها الحاسم عن الوكلاء عند انتهاء المهمة.
لم يمر شهر على الانسحاب من أفغانستان، حتى أقام الكونغرس الأمريكي جلسة استماع طارئة للحكومة الأمريكية، يبحث خلالها الإخفاقات وخطة الانسحاب الأمريكية من هناك، إلا أنه لم يحضر الجلسة إلا وزير الخارجية، وهو ما أثار حالة من الاستياء لدى أعضاء الكونغرس بسبب غياب باقي الوزراء وعلى رأسهم وزير الدفاع "أوستن"، ربما لم يحبذ حضور جلسة الاستماع خوفاً من أن يغرقه بلينكن بأداءه المرتبك وموقفه الضعيف، وعلى أي حال يظهر موقف "أوستن" تفكك الإدارة وعدم تعاونها وتشاركها في تحمل المسؤوليات.
إذا ما أراد المراقب، مقارنة كلام بايدن وبلينكن ووعودهما بالانسحاب من الحرب الأطول في تاريخ الولايات المتحدة، يستطيع ملاحظة مدى اهتمامهما بهذا الموضوع على أنه رصيد كبير لحسابهما السياسي، لكن من جهة أخرى يدخل بلينكن قاعة الجلسة ليظهر على ملامحه بشكل واضح وكبير، فشله هو وإدارته في العملية التي هشّمت صورة أميركا.
بلينكن متوتر!
كثيرة هي الأسئلة التي طرحت عليه، لكنه لم يستطع البتة إظهار أي نجاح حققه أو حتى نفي الادعاءات التي نالت منه، عكس نظيره السابق "بومبيو" الذي طالما ما كان يظهر في هذه الجلسات على أنه هو الذي حضر ليسائل الآخرين، إلا أن بلينكن لم يستطع حتى إبعاد يديه عن إبطيه بضعة سنتيمترات لشدة التوتر والإرباك الذي أصاباه، فبحسب علماء النفس فإن هذه الحالة تدل على الموقف الضعيف والتوتر الشديد، وبالتالي تصيب المتحدث بحالة من الانكماش في الحركة وصعوبة في التواصل الجسدي مع الآخر.
الفيديو المرفق عبارة عن لقطات توضح مدى ضعف شخصية بلينكن، وهو عبارة عن مقاطع تلخص جلسة امتدت ثلاثة ساعات ونصف، لكنها ليست ساعات تحمل معها أدلة وبراهين تثبت نجاح عملية الانسحاب، بل مجرد ساعات من السكوت والهروب والتوتر والتزلف السياسي.
بلينكن: الشخصية الأضعف
المقطع الأول من الفيديو "الشخصية الأضعف"، يظهر مدى التردد والقلق لدى بلينكن خلال انتظاره للأسئلة وأثناء الإجابة عليها، إذ يجيب السيناتور "باراسو": "سيناتور، لن أدخل في نقاشات ومداولات". نعم بلينكن لا يريد النقاش بينما هو في جلسة للاستماع، ليكمل أن وزارته هي المسؤولة عن هذه العملية فيأتيه الجواب بسرعة من "باراسو": "أعلم أين أنت، أعتقد أنه يجب أن تكون هنا بدلاً من هناك". وحينما أراد أن يكمل لعب دور المتحمل للمسؤولية يقاطعه السيناتور "مينينديز": "من فضلك، قم بذلك بسرعة"، طبعاً هو يحاول كسب عاطفة المشاهد بوجهه "الحزين"، لكنه في الواقع غير قادر على المواجهة.
بلينكن: غير قيادي
في المقطع الثاني والذي يحمل عنوان "غير قيادي"، لم يستطع بلينكن حتى الرد بشكل واضح على السؤال الذي طرحه السيناتور "كروز" ليقول له حينما سأله عما إذا أعطت الإدارة أسماء لطالبان، يكتفي بلينكن بالرد أنه لا يمكن تحديد رقم، فيقاطعه "كروز" قائلاً: "لماذا لا تستطيع، هذه جلسة استماع للمعرفة". ليجيب بلينكن ضاحكاً من شدة المأزق الذي وقع فيه أنه تم نقل الكثير إلى نقاط الوصول من دون الإجابة على سؤال "كروز" الأساسي.
ينتقل الدور إلى السناتور "جونسون" ليسأله عن كيفية الحفاظ على الدولة في مأمن مما يجري، ليجيبه بإجابة ليس لها علاقة بما طرحه جونسون، حول خطوات محددة لطالبي التأشيرات الخاصة، ليظهر فاقداً للتركيز.
بلينكن المتزلف
كعادته بلينكن لا يمكن أن يكون لديه خطاب أو تصريح، وحتى جلسة استماع من دون أن يتزلف لمسؤوليه خصوصاً بايدن، فالمقطع الثالث من الفيديو بعنوان "متزلف"، يقدم بلينكن دائماً الآخرين على نفسه، إذ يقول خلال هذا الفصل مرتين على التوالي "زملائي في البنتاغون يمتلكون خبرة أكثر مني" ومن ثم ينتقل للكلام عن بايدن بأنه صاحب القرار الوحيد.
هكذا هي حال الإدارة الأمريكية إذاً، فالكتاب يظهر من عنوانه، فاليوم الإدارة مربكة وعاجزة أمام ما يقف أمامها من تحديات، وبلينكن المسؤول الأول بعد الرئيس عن السياسة الخارجية الأمريكية، يظهر اليوم عاجزاً ومربكاً أيضاً، فارغةً يداه من الحلول، لذا ليس غريباً أن الأمور تسوء في البيت الأبيض خاصةً بعد أول تحد لها في سياستها الخارجية أي أفغانستان وبات التشابك الداخلي في الإدارة الأمريكية يزداد حدةً بسبب تحميل كل جهة مسؤولية الفشل في أفغانستان إلى الجهة الأخرى، وكل ذلك يعود سببه إلى التفرد في اتخاذ القرار لدى بايدن وفريقه وتجاوزهم لآراء من حولهم ليعلن الانسحاب بهذه الطريقة "المذلة"، بينما لا يزال بلينكن يتزلف.
هذه الشخصية التي لم يسبق أن وصل إلى موقع وزير الخارجية شخصية بمثل نقاط ضعفها وعجزها، تؤثر في السياسة الخارجية العامة لأميركا التي تمر في مرحلة تراجع وانكفاء وفقدان سطوة الهيمنة، وهي تعبير عن ضعف المؤسسة والقيادة بشكل عام، وسيكون لذلك انعكاس على الأزمات المختلفة التي تنخرط الولايات المتحدة في استثمارها وإدارتها. فإن كان بلينكن عاجزاً عن إدارة ملفات لبنان وأفغانستان، فكيف سيحل المشاكل الكبرى مع الصين وأوروبا؟
هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة رأي موقع الخنادق
الكاتب: محمد حمدان